خرج السوريون في الخامس عشر من شهر آذار/مارس 2011 في شوارع دمشق بنسيجهم المتنوع وهم يطالبون بالإفراج عن عدد من المراهقين الذين ألقي القبض عليهم في درعا بتهمة الكتابة على جدار مدرستهم بعبارات مناهضة للنظام السوري بعد أن سمعوا ورأوا ما جرى في تونس ومصر وسقوط زين العابدين بن علي وحسني مبارك اللذين تنازلا عن السلطة بعد مظاهرات شعبية واسعة.
لم يتعود السوريون على التظاهر اعتراضا على الحكومة أو النظام لانتشار الخوف الشديد الذي زرعته السلطات الأمنية والتي تحكم البلد بالسيف والحديد والنار. دائما ما يتناقل السوريون أخبار التعذيب والمعتقلات الوحشية والتعامل غير الآدمي لأجهزة الأمن مع المواطنين في ذلك البلد الجميل. على الرغم من ذلك خرج الناس ليعبروا عن رأيهم ويرفعوا الصوت ضد هذه الأجهزة الأمنية مطالبين بالتغيير السلمي والإصلاح.
تدخل هذه الثورة عامها الثامن وقد تحولت منطقة الشرق الأوسط برمتها إلى بؤرة من النزاعات والحروب وقتل واعتقل مئات الآلاف وهجر الملايين وليكون بشار الأسد العنصر المشترك الوحيد بين كل هذه الصراعات والنزاعات في المنطقة.
يدخل هذا العام الجديد والغوطة الشرقية وأطفالها يتألمون تحت أنين القصف اليومي والرعب من قبل النظام السوري وحليفه الروسي والذي يريد استعادة الغوطة وضمها إلى مناطق سيطرته بعد اتفاق روسي ـ تركي ـ إيراني.
هذا العام الثامن بدأ في عفرين التي سقط فيها مئات القتلى من المدنيين وأصيب الآلاف بعد أن تعرضت لقصف يومي من قبل بعض فصائل المعارضة السورية التابعة لتركيا والجيش التركي وجرى حصارها لفترة قبل سقوطها في يد الأتراك الذين يريدون وصل عفرين بمنبج وإكمال العمليات العسكرية ضد الأكراد حتى الوصول إلى شرق الفرات.
لا شك أن هذه الحرب تركت آثارا مدمرة على سورية وعلى المجتمع وخلقت جيلا من الأطفال الذين شهدوا قذارة هذه الحرب الطاحنة إلا أنني أريد أن أنظر إلى نصف الكأس الممتلئ وسأتحدث هنا عن بعض التغييرات المجتمعية والفكرية التي تسببت بها هذه السنوات السبع العجاف والتي تركت آثارها على كل بيت سوري.
أولا: استوعب الشعب السوري خطورة هذا النظام ولعبته الطائفية وأصبحت حقيقة واضحة للجميع حتى المؤيدين منهم بل وتبين زيف سياسات هذا النظام الذي كان يرفع الشعارات ضد الغرب ليسرق المال العام ويدمر البلد. وتعلم السوريون أن ليس كل ما يقال ويشاع يصدق بل عليهم التحري، فقد صدم السوريون أن الغرب، الذي كان يشيطنه هذا النظام، هو من وقف إلى جانبهم واحتواهم وقدم لهم الكثير في بلاد اللجوء وهو أكثر من قدم مساعدات إنسانية لتخفيف الضرر عن السوريين في شتى بقاع الأرض التي انتشر فيها السوريون.
ثانيا: أصبح لدى هذا الشعب مؤسسات مدنية متعددة تعمل في الشأن السياسي والميداني والإداري والخيري وهذا تحول كبير في طبيعة المجتمع. إذ بات هناك آلاف من المهتمين في هذه المجالات وهم يطورون من أنفسهم ومؤسساتهم كل يوم. صحيح أن هذه المؤسسات ما زالت غير ناضجة بما فيه الكفاية إلا أنها خطوة أولى على الطريق المدني الطويل بعد أن احتكر النظام كل التمثيل الشعبي والسياسي وحتى الإعلامي، وكان يتحكم بكل صغيرة وكبيرة حتى في الإشاعة التي تنتشر بين الناس عبر أجهزة استخباراته إذ كان لديه قسم خاص بنشر الإشاعات والتحكم بها.
ثالثا: أصبح لدى الشعب السوري إعلام خاص حر بعيدا عن تحكم النظام وأصبح هناك قنوات تنشر المعلومة ويتابعها السوريون. ومع أن الكثير من وسائل الإعلام المنتشرة حاليا سواء كقنوات فضائية أو راديوهات تبث عبر الأثير أو صفحات التواصل الاجتماعي ينقصها الكثير من المهنية والحيادية، وهذا أمر طبيعي بعد سنوات الحرمان والمعلومة الواحدة، إلا أن هذا التغير يعتبر تغيير جذري في صلب المجتمع وثقافته.
رابعا: صحيح أن هناك أكثر من 6 ملايين لاجئ إلا أن هؤلاء اللاجئين سيختلطون مع أبناء العالم المتحضر سواء في أوروبا وكندا وأميركا وتركيا وغيرها وستتغير الكثير من مفاهيمهم وسيتعلمون ويعيشون الحرية وحقوق الإنسان والعدالة وسيعرفون أن كل ما كان يروجه نظام الأسد عن الغرب ما هو إلا كذب وافتراء. وسيكون اللاجئون السوريون في القريب العاجل مصدر قوة لسورية ولأهلها.
خامسا: سقوط القناع عن مشايخ السلطان الذين أيدوا القتل والحلول الأمنية تحت اسم الدين وبرروا كل ما ارتكبه النظام من جرائم. وهؤلاء بغالبيتهم أسماء كبيرة وصلت إلى مرحلة التقديس لدى الكثيرين، وتبين للناس زيف أغلب ما كانوا يدعون إليه. فكيف لشيخ يدعي التدين أن يفتي، من خلال علمه الذي يدعيه، للمجرم بالاستمرار في قتله وإجرامه؟ بل وتبين للشعب السوري زيف قناع المشايخ والسلطات الدينية حتى ممن يدعمون ويؤيدون تحركات الشعب السوري بعد أن أيد بعضهم قوى الإرهاب وأصدر الفتاوى بأن هذا جهاد مقدس وأيد الكثير منهم ما يحصل في عفرين من عمليات عسكرية أدت إلى موت المدنيين الأبرياء وتهجير الكثير من سكان عفرين. وهذا ما ساهم بإيضاح صورة المشايخ للسوريين. فهم ليسوا سوى بشر بسطاء يصيبون ويخطئون وتحركهم السياسة والجهات السياسية. ويمكن القول إن ما جرى، جعل صورة الشيخ وقداسته في العقل الجمعي تتغير وتتحول إلى شخص عادي قد نتفق أو نختلف معه.
سادسا: انكشاف أمر الراديكالية والمتطرفين الإسلاميين التي كانت تستخدمها الأنظمة الدكتاتورية كمصدر رعب للغرب والشرق. وتبين للبسطاء من الناس خطر هؤلاء وخطر فكرهم الإرهابي وخطر حتى التعاطف البسيط معهم بعد انكشاف مشروعهم الدكتاتوري والرجعي والإرهابي وقد أدى هذا إلى مراجعات فكرية عميقة تمس الكثير من الثوابت الدينية والمجتمعية.
أعتقد أن هناك نقاط مضيئة كثيرة في التحول الفكري والمجتمعي وهناك مآسي كثيرة كذلك فقد قتل هذا النظام السوري واعتقل مئات الآلاف وهجر الملايين وهذه مأساة إنسانية كبيرة. كما انتشرت الفصائل المسلحة في أرجاء سورية وارتكبت هذه الفصائل الكثير من الجرائم كذلك إلا أنني أعتقد أن هذه العقلية الدكتاتورية سواء الدينية أو السياسية قد هزمت. فهذا النظام الدكتاتوري سقط مع أول صرخة لأطفال درعا التي كسرت جدار الخوف لتفتح باب الحرية الكبير. لن يستطيع أحد حكم سورية بعد اليوم على طريقة هذا النظام. والدكتاتورية الدينية هزمت كذلك بعد أن رأى الناس نتيجة حكمهم وتصرفاتهم ورجعيتهم على أرض الواقع.
صحيح أن سورية أصبحت ملعبا دوليا تتصارع فيه القوى العالمية، وهذا بالتأكيد بسبب الأسد بشكل رئيسي، إذ باع الأرض وباع نفسه وبلده ليبقى على رأس السلطة. إلا أن الشعب السوري تغير كثيرا وتعلم كثيرا ولن يرضى بأغلبيته أي حكم دكتاتوري ظالم وسيسعى إلى التصالح مع مكوناته كلها وسيحافظ على حقوق الجميع.
بقلم عبد الحفيظ شرف/ الحرة
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=47620