طوال حياتي المهنية الممتدة لـ 35 عاماً، لم ألتقِ وزير خارجية بمثل هذه الشفافية والوضوح، بعد أن اعتدنا كصحافيين على لقاء وزراء أتقنوا مهمة اللف والدوران وكل المصطلحات والتعبيرات التي تقدم لك الحدث بلا طعم ولا لون ولا رائحة -إلا من رحم ربي- إنه وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو، الذي خصّ 50 صحافيًّا عربيًّا بأكثر من ساعتين، تحدث فيهما عن كل ما يخص المنطقة والعالم بوضوح وشفافية لم نعهدها على مسؤول عالمي.
“تشاويش أوغلو” قدّم الخارجية التركية بطريقة مختلفة ونادرة ومميزة في عالم الدبلوماسية العالمية، وقد سبقه إلى ذلك رئيسه، رجب طيب أردوغان، الذي كان واضحًا وضوح الشمس، إن كان بموقفه الصارخ الواضح من الربيع العربي وثوراته، أو من خلال أسطول الحرية، وموقفه الأخير من القدس وفلسطين، والذي كلّفه كثيرًا في عالم السياسة والعلاقات الدولية، ولكنه كسب الموقف الأخلاقي، ووضع مبدأ فريدًا في عالم السياسة الخارجية يستند إلى الحق والأخلاق والمبادئ، وليس إلى البراجماتية التي تستلب وتضيّع الحقوق في أحايين كثيرة.
بدأ “تشاويش أوغلو” حديثه مع الصحافيين العرب غالبًا، على مبدأ ما بال أقوام يفعلون كذا، لكن هؤلاء الأقوام كلنا نعرفهم في عالم الصحافة والإعلام، وكان يشير بذلك إلى من وقف ضد الثورات في مصر واليمن، وكلّفه ذلك وصول ميليشيات “الحوثي” إلى الحكم في صنعاء، فدفع ثمنًا باهظًا ولا يزال، بينما لا نزال نراهم صامتين تجاه وجود الإسلاميين في دول أخرى، وانتقل “تشاويش أوغلو” إلى نقل “ترامب” لسفارة بلاده إلى القدس، وكيف توجَّه إلى نيويورك ليجدها خالية بلا سفراء عرب، وقد هربوا وفرّوا -حسب قوله- منها حتى لا يلتقوا به، فعلق عليه بقوله: “قبّحهم الله، فقد هربوا من الحديث عن أهم قضية إسلامية”، ويعرّج “تشاويش أوغلو” على الوضع العراقي، حيث كان بازار الانتخابات على أشده ليقول، إننا في تركيا نرى أن “المالكي” كان كارثة على العراق وأهله والمنطقة، وكلنا ندفع ثمن أخطائه، ولا ينسى “أوغلو” الحديث عن شخص بحجم “محمد دحلان”، الذي كشف لأول مرة عن نقله أموالًا من الإمارات إلى الانقلابيين في تركيا، وهو ما تراه الأخيرة محطة فاصلة من تاريخها، إذ كانت تريد بها العودة إلى ما قبل الازدهار الاقتصادي التركي، وإلى قوقعة الانقلابات العسكرية والمناكفات الخطيرة بين السياسيين والعسكر، بعيدًا عن قدرها كرائدة في التحرك السياسي الإقليمي والعالمي.
حين الحديث عن لبنان، كان الوزير التركي واضحًا جدًا، إذ إن النتائج كانت تترى عن خسارة “الحريري” ومعسكره، فعلّق الوزير التركي: “وتسألون لماذا خسر الحريري؟! وأنتم ترون ما حصل له، لا أريد الخوض في التفاصيل، فالكل يعلم لِمَ خسر الحريري؟!” كان الوزير التركي واضحًا إزاء الحدث السوري وتعقيداته، فقد أكد على أن “الأسد” لا يمكن أن يكون جزءًا من مستقبل سوريا، بقدر تأكيده على أن إدلب خط أحمر، حيث يقيم فيها أكثر من 5 ملايين سوري، رفضوا العيش في عباءة العصابة الطائفية، ولذا فإن تركيا لن تسمح باختراقها.
إعلان
دبلوماسية فريدة وجديدة في عالم السياسة الخارجية العالمية، الوضوح والشفافية، ربما دشّنها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ما دام وزير الخارجية هو صدى لتلك السياسة والدبلوماسية، ولكنه صدى أمين وتطبيق حقيقي لسياسة خارجية بوصلتها الشعوب، وحجمها ليس بحجم تركيا الحالية، وإنما بحجم تركيا القديمة، فحجم سياستك ونفوذك ومجالك الحيوي، يصل إلى ما حكمته بالماضي وليس ما تحكمه بالحاضر.
بقلم: د. أحمد موفق زيدان / صحيفة العرب