قلّبت قضية الصحافي السعودي “جمال خاشقجي” في قنصلية بلاده بمدينة اسطنبول التركية مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، مواجع السوريين في تركيا التي تستضيف العدد الأكبر منهم حول العالم، لا سيما أن غالبية السوريين المقيمين في تركيا من المعارضة السورية أو من الذين وجدوا أنفسهم محسوبين على المعارضة رغماً عنهم، ويضطر معظمهم لمراجعة القنصلية السورية في اسطنبول ثلاث مرات على الأقل كل عامين بغرض تجديد جوازات سفرهم، هذا إن لم يضطروا لمراجعتها للحصول على أوراق رسمية أخرى.
بالرغم من أن “القنصلية السورية” لم تتورط باعتقال أو تصـ.ـفية السوريين المعارضيين الذين يراجعونها يومياً للحصول على حقهم بتجديد جوازاتهم واستخراج أوراق رسمية منها، إلا أنها متورطة وبحسب الكثير من مراجعيها بابتزازهم وتكبيدهم مبالغ مالية كبيرة قبل أن تقدم خدماتها لهم بالتواطئ مع شبكة “سماسرة” يتاجرون بمواعيد المراجعة وبيعها للمراجعين.
الرضيع “إرهابي” ما لم يحصل على “موافقة أمنية”
فخري حاج بكار، مهندس سوري يعيش في مدينة غازي عنتاب التركية منذ نحو 5 سنوات، تزوج ورزق بطفله الأول فيها، وتمكن بعد عناء طويل وتكبد مبالغ طائلة من تثبيت زواجه في سوريا عن طريق سماسرة ومحامين حتى انتهى به المطاف بـ “القنصلية السورية” التي قصدها بهدف استخراج جواز سفر لطفله الرضيع الذي لم يكن يبلغ شهره الثاني حينها.
دفع حاج بكار 300 دولار أميركي لأحد السماسرة الذين يبيعون مواعيد مراجعة القنصلية، وسافر من مدينة “غازي عنتاب” إلى مدينة “اسطنبول” وتوجه في الصباح الباكر إلى القنصلية التي تقع في أحد أرقى أحياء المدينة، وبعد الوقوف بطابور مؤلف من عشرات الأشخاص وانتظار لساعات طويلة، دخل إلى القنصلية وقدم أوراق طفله للموظف الذي فاجأه بسؤاله إن كان قد حصل على الموافقة الأمنية للرضيع قبل تقديم الأوراق، حينها رد فخري على سؤال الموظف بسؤال عن سبب فرض “الموافقة الأمنية” على طفل لم يبلغ ستين يوماً من عمره بعد، فضحك الموظف ورد بسخرية وبصوت مرتفع ليسمعه الجميع: “إذا بيكون عمره يوم واحد لازم يقدم على موافقة أمنية، ممكن يكون إرهابي”.
عاد حاج بكار إلى غازي عنتاب بعد أن تقدم بطلب “موافقة أمنية” لطفله، والتي تستغرق بين اسبوع واحد إلى أربعة أسابيع حتى تصل من العاصمة السورية دمشق، ما يضطره لتحمل نفقات السفر بين المدينة التي يقيم فيها ومدينة “اسطنبول”، ونفقات الإقامة والمواصلات.
وبعد 10 أيام، سافر فخري مجدداً إلى اسطبنول بناء على الموعد الذي منحه إياه موظف القنصلية بهدف تسليم أوراق طلب الحصول على جواز السفر لابنه، ودفع الرسوم التي تبلغ 800 دولار أميركي لأنه تقدم بطلب مستعجل كونه مضطر للتقديم على طلب إقامة سياحية للطفل خلال فترة زمنية لا تتجاوز الستين يوماً حسب شروط دائرة الهجرة التركية، في حين تصل مدة تسليم جواز السفر غير المستعجل لحوالي ثلاثة أشهر، علماً أن رسم الجواز غير المستعجل تبلغ 300 دولار أميركي.
يأمل فخري بالحصول على الجنسية التركية التي تمنحها تركيا للسوريين بشكل استثنائي بأسرع وقت أو جنسية أي دولة أخرى تحترم مواطنيها وتمنحهم أوراق رسمية دون تلك التعقيدات والمبالغ الطائلة التي يتكبدها المواطن السوري لتسجيل واقعة ما تطرأ على حياتهم، ويؤكد بأن فكرة إنجاب طفل ثاني مؤجلة بالنسبة له حتى تحقيق ذلك.
وفيما يلي نشرح المراحل التي يمر بها المواطن السوري الراغب بالحصول على جواز سفر (جديد/تجديد) من قنصلية اسطنبول:
ويضاف إلى التكاليف التي تم شرحها في الجدول مصاريف السفر والإقامة التي يدفعها السوريين المقيمين في مدن وولايات تركية بعيدة عن اسطنبول، حيث تبلغ قيمة الحجز بالطائرة من مدينة غازي عنتاب على سبيل المثال إلى مدينة اسطنبول 100$ ذهاباً وإياب بشكل تقديري، ويحتاج الشخص المقيم في مدينة أخرى للسفر إلى اسطنبول 3 مرات على الأقل حتى يستلم جواز السفر وبكلفة تقديرية تصل إلى 300$ يستثنى منها مصاريف التنقلات داخل المدن والإقامة في حال اضطر للمبيت في اسطنبول إن تم تأجيل أو عرقلة إنجاز إحدى المراحل بسبب غياب أحد موظفي القنصلية المسؤولين عن استلام/ تسليم أوراقه.
حصل فخري على جواز سفر لابنه مدة ست سنوات، وبلغت التكلفة الإجمالية التي دُفعت مقابل الحصول على الجواز 1450$ لا تشمل مصاريف التنقلات داخل المدينتين والإقامة بما أنه نزل بضيافة أصدقاءه خلال أيام تواجده في مدينة “اسطنبول”، إلا أن أبا أحمد لم يكن محظوظاً مثل فخري وطفله، لأن طلبه بالحصول على جواز سفر له بصلاحية 6 سنوات عاد بالرفض، ولم يمنح سوى جواز سفر بصلاحية سنتين على الرغم من أن سنه تجاوز السبعين عاماً.
اتمنى أن يأخذ الله أمانته قبل أن أضطر لتجديد جوازي مرة أخرى
من مدينة أضنا التركية سافر أبا أحمد إلى اسطنبول التي لا يعرف أحداً فيها ولم يزرها طوال سنين عمره التي تركت أثرها على وجهه المليء بالتجاعيد لانجاز معاملة تجديد جواز سفره بهدف تجديد الإقامة السياحية التي يقيم بموجبها في تركيا منذ 6 سنوات، لم يكن يتوقع الرجل السبعيني أن يضطر للمبيت في اسطنبول أو الإقامة فيها ولا يملك مالاً يكفي لتغطية كل تلك النفقات.
بمساعدة أحد جيرانه، حصل أبا أحمد على موعد لمراجعة قنصلية اسطنبول عن طريق سمسار دفع له 200$، وصل إلى اسطنبول قبل يوم واحد من موعده، وراجع القنصلية بعد أن أمضى ليلته في الحديقة القريبة من مكان القنصلية، إلا أن معاناته بدأت حين رمى الموظف المسؤول عن جمع المواعيد من المراجعين على باب القنصلية أوراقه بوجهه موبخاً واتهمه بـ “تزوير” الموعد.
امتص الرجل السبعيني الصدمة محاولاً فهم قصد الموظف الذي هو بعمر أحفاده حسب تعبيره، إلا أن الموظف رفض الحديث معه أو شرح سبب معاملته السيئة له، ليستنتج بعد تدخل موظف الأمن على باب القنصلية (تركي الجنسية) بأن الموعد الذي معه غير مسجل على موقع القنصلية، وأنه وقع ضحية نصب من قبل السمسار الذي باعه الموعد، ليبدأ أبا أحمد بمهمة لم تكن بالحسبان، ألا وهي مهمة حجز موعد جديد من قبل “سمسار معتمد ومضمون” ودفع قيمة الحجز مرة ثانية.
يقول أبا أحمد أن المهمة لم تكن تحتاج جهداً كبيراً، فالسماسرة ينتشرون على باب القنصلية علناً وعلى “عينك يا تاجر”، وما أن سمعوا بالحوار الذي دار بينه وبين موظف الأمن عند باب القنصلية حتى سحبه ثلاثة سماسرة على الأقل وعرضوا عليه “خدماتهم” وحجز موعد قريب له، واضطر لشراء موعد جديد من أحدهم بعد يومين بقيمة 275$، دفع أبا أحمد قيمة الموعد الجديد من المبلغ الذي اقترضه من أحد أصهرته لدفع رسوم الجواز واستدل بمساعدة “أهل الخير” على فندق شعبي بإحدى مناطق اسطنبول سيقضي فيه الوقت ويبيت فيه ريثما يحين موعده بالقنصلية.
مضت الساعات ببطئ، وحان موعد أبا أحمد واستلم موظف القنصلية موعده وسلمه ورقة (طلب موافقة أمنية) وطلب منه تدوين معلوماته الشخصية عليها والانتظار مع المنتظرين في الطابور الذي يضم العشرات من السوريين على باب القنصلية، وبعد ساعتين من الانتظار عاد ذات الموظف وجمع طلبات “الموافقة الأمنية” من المراجعين وطلب منهم العودة بعد ستة أيام لتقديم “طلب منح الجواز” ريثما يصل للقنصلية الرد على الموافقات الأمنية الخاصة بكل واحد منهم من العاصمة دمشق.
عشر أيام أخرى أمضاها أبا أحمد في اسطنبول بعد أن حصل على خصم من الفندق الذي أقام فيه خلال تلك الفترة على تكاليف الإقامة، حتى حان موعد استلام الجواز (المستعجل)، والذي بلغت كلفته الإجمالية 1625$ دفعت على النحو التالي:
على الرغم من أن أبا أحمد غير مطلوب لأي تهمة من قبل النظام ولم (يتورط) بأي “أعمال تخريبية” أو مظاهرات مناهضة للنظام خلال تواجده في سوريا، وليس مطلوباً للخدمة الإلزامية أو الإحتياطية حتى، إلا أنه لم يمنح جواز سفر لمدة ست سنوات، وإنما لسنتين فقط، حتى أنه علق ساخراً على الأمر قائلاً “اتمنى أن يأخذ الله أمانته قبل أن أضطر لتجديد جوازي مرة أخرى، فبعد عامين لا أدري إن كنت سأقدر على تأمين تكاليف تجديد جواز السفر، أو أن أكون بصحة تساعدني على تحمل عناء السفر والانتظار أمام باب قنصلية بلدي”.
نظام حجز إلكتروني خاص بين السماسرة والقنصلية
أثناء إعداد هذا التحقيق، تمكنت “نون بوست” من التواصل مع أحد السماسرة الذين يبيعون مواعيد قنصلية اسطنبول للمراجعين، وبصفة “زبون” تواصل معد التحقيق مع “عبد المعين” الذي يدير مكتب لتسيير المعاملات في مدينة “أورفا” التركية، والذي حدد سعر موعد تجديد جواز السفر بـ 300$، وموعد تصديق الأوراق والشهادات بـ 200 ليرة تركية، وبعد أخذ ورد معه حصل معد التحقيق على “خصم” بقيمة 25$ على ثمن موعد تجديد جواز السفر لكن بشرط أن يشتري في وقت لاحق موعد آخر لتجديد جواز سفر ثاني لأحد أقاربه.
ولفهم العلاقة أكثر بين السماسرة ومدى تورط قنصلية اسطنبول بالتلاعب بنظام حجز المواعيد وآلية التنسيق فيما بينهم، تواصل معد التحقيق مع سمسار آخر في مدينة تركية أخرى يدعى “سامح” وطلب منه الحصول على موعد لتجديد ذات الجواز الذي اتفق مع السمسار الأول “عبد المعين” على أن يحجز له موعداً لتجديده، إلا أن المفاجئة كانت بأن “سامح” رد بعدم تمكنه من حجز موعد لمعد التحقيق (الزبون المفترض)، لأن الجواز الذي يريد تجديده محجزو ضمن قوائم سمسار آخر وأنه لن يتمكن من حجز موعد له إلا بعد أن يلغي صاحب الحجز موعده الأولي لدى السمسار الآخر، وأرسل له صورة تظهر اسم صاحب الجواز ورقم الحجز الأولي وطبيعة المعاملة، وبدت الصورة ملتقطة من نظام إلكتروني للقنصلية خاص بالسماسرة، وهو غير النظام العام الذي يظهر على الموقع الرسمي للقنصلية، مما يؤكد تورط القائمين على قنصلية اسطنبول بالمتاجرة بمواعيد الحجز والمراجعة.
بعد ذلك ألغى معد التقرير حجزه الأولي لدى السمسار الأول “عبد المعين” بعد أن آقنعه بأن أحد أقاربه أمّن له حجز مجاني لدى سمسار آخر، قابل السمسار الثاني “سامح” وسلمه 250$ قيمة الموعد التي اتفق معه عليها وحصل على صورة الحجز وراجع بها القنصلية وجدد بموجبها جواز سفره بعد اتباع الخطوات المذكورة في تحقيقنا بحذافيرها.
الحل بيد الأتراك والحصانة تمنعه
واستطلعت “نون بوست” آراء عدد من السوريين الذين سبق لهم وأن راجعوا قنصلية اسطنبول بهدف استصدار/تصديق أوراق رسمية تخصهم، واتفق جميعهم على وجهة نظر واحدة تقول بأن الحل لانهاء معاناتهم التي تمثل معاناة مئات الآلاف من السوريين المقيمين في تركيا بأن تعفيهم الدولة التي تستضيفهم من شرط الحصول على أوراق من قنصلية النظام باعتبارهم جميعهم (أو من يرغب بذلك) كلاجئين، بدلاً من اعتبارهم “ضيوفاً” أو “سائحين”، بحيث تصدر لهم وثائق سفر على غرار تلك التي تمنحها دول الاتحاد الأوربي للاجئيين السوريين وإقامات طويلة غير مرتبطة بصلاحية جواز السفر السوري.
شريحة أخرى من السوريين الذين استطلعت “نون بوست” آرائهم حول الموضوع، يعتقدون أنه على الأتراك التدخل ووضع حد للمتاجرة التي تدار من قبل “مافيا القنصلية” حسب تعبيرهم، وذلك من خلال تنظيم عملية حجز المواعيد بنظام إلكتروني تشرف عليه تركيا وليس القائمين على القنصلية، أو من خلال نظام حجز مواعيد آلي يتم تركيبه داخل القنصلية، إلا أن هذا الأمر لا يمكن تطبيقه بحسب مختصين بالقانون الدولي على اعتبار أن القنصلية تعتبر بعثة دبلوماسية ويتملك موظفيها حصانة تحول دون تدخل البلد الذي يستضيفها بآلية عملها أو حتى التحقيق مع موظفيها ومحاسبتهم من قبل السلطات التركية على ممارساتهم بحق المراجعين، وأن الجهة المسؤولة عن محاسبتهم هي سوريا وليست تركيا.
و تفرض تركيا على السوريين الراغبين بالإقامة على الأراضي التركية “إقامة سياحية/قصيرة” أو “إقامة عمل” أن يكون لدى صاحب الطلب جواز سفر ساري الصلاحية لمدة 4 أشهر على الأقل، ليتم منحه الإقامة لمدة تقل عن المدة المتبقية بجواز سفره بشهر واحد، ولا تزيد مدة الإقامة التي تمنحها تركيا للسوريين/الأجانب عن سنتين للإقامة السياحية/القصيرة، وسنة واحدة لإقامة العمل.
ويمكن للسوريين المقيمين في تركيا أن يحصلوا على بطاقة الحماية المؤقتة التي تخولهم الإقامة على الأراضي التركية دون أن ترتبط إقامتهم بصلاحية جواز السفر، إلا أن حاملي بطاقة الإقامة المؤقتة لا يملكون حق العودة إلى تركيا في حال خرجوهم منها إلا بعد حصولهم على “فيزا” وملزمون بالعيش ضمن المدينة التي أصدرت لهم تلك البطاقة، ولا يحق لهم التنقل بين المدن التركية إلا بموجب “إذن سفر” يشترط للحصول عليه من دوائر الهجرة وشعب الأجانب في كل مدينة تقديم سبب مقنع للسفر ووثيقة تثبت وجود قريب من الدرجة الأولى للمتقدم بطلب “إذن السفر” يقيم في المدينة التي يرغب بالسفر إليها، وسط تشديد من قبل شركات النقل البري والجوي على سفر السوريين بين المدن وامتناعهم عن الحجز لهم إلا بعد التأكد من امتلاك المسافر لـ “إذن السفر” بعد فرض السلطات التركية مخالفات مالية كبيرة بحق من يقل سوري لا يملك تلك الورقة، إضافة إلى فرض مخالفات مماثلة بحق السوريين الذين يضبطون في مدن تركية غير المدن التي منحتهم بطاقة “الحماية المؤقتة” في حين تم ترحيل عشرات السوريين المخالفين الذين ضبطوا في مدن أخرى لأكثر من مرة إلى خارج سوريا، تحديداً إلى مناطق “درع الفرات” شمال مدينة حلب.
المصدر: نون بوست + زمان الوصل
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=81514