ميسرة بكور / خاص تركيا بالعربي
يعتقد البعض الكثير أنّ قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب حول نيّته سحب القوات الأمريكية من سوريا بوقت قريب جدًا، قرارًا غير مدروس وهو مشروع ارتجاليّ “تويتري” كما جرت عليه عادة الرئيس ترامب الذي أقال وزير خارجيته ريكس تيلرسون بتغريدة على تويتر.
لكن الأمر ليس كذلك بل خضع لمراجعة وتفكير من قبل الرئيس ترامب وجموعته الضيقة المحيطة به، بعيدًا عن وزارة الدفاع ووزارة الخارجيه التي أقيل رئيسها، يمكننا التدليل على صحة هذا الرأي من خلال التوجه لما كشفت عنه صحيفة “واشنطن بوست” أنّ الرئيس دونالد ترامب طلب الحصول على مبلغ 4 مليارات دولار من الرياض، مقابل خروج قوات بلاده من سوريا.
من المقرر أن تذهب المليارات الأربعة التي ستساهم بها السعودية، لتحقيق خطط الولايات المتحدة في سوريا، ونفس الصحيفة بنفس التقرير، أشارت إلى أنّ الأموال من أجل تنفيذ مخططات أمريكا شمالي سوريا في المناطق التي تسيطر عليها الولايات المتحدة.
هل كان قرار ترمب استراتيجيًّا ويخدم المصالح الأمريكية؟
لا نعتقد أنّ قرار ترامب بالانسحاب من سوريا استراتيجيًّا، يصب في مصالح أمريكا الرامية لتدمير تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، فالوقائع كلها تقول إنّ التنظيم لا يزال له تواجد كبير ومهم شمال شرق سوريا، وأثناء كتابة هذه السطور سيطر تنظيم الدولة على منطقة بالقرب من دير الزور بعد أن طرد أذرع حزب العمال الكردي الإرهابي التركي منها، وهو في نفس المقام يخدم التطلعات الإيرانية الراغبة في إنجاز الهلال الشيعي الذي يمتد عبر جانبي الحدود السورية العراقية.
من يخدم قرار الانسحاب من سوريا
في المقام الأول – دون شك – يصب في المصالح الروسية التي طالما اعتبرت التواجد الأمريكي في سوريا بأنّه خارج نطاق القانون الدولي، ووصفه تنظيم الأسد بـ”الاحتلال”، ولطالما طالبت موسكو بانسحاب هذه القوات من سوريا واعتبرتها عائقًا يحول دون تحقيق الاستراتيجية الروسية في سوريا.
يعتقد مراقبون أنّ هذا الانسحاب المفاجئ يشير بوضوح إلى عمق العلاقات الخفية بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وترامب بعيدًا عمّا يقال ويشاع في الإعلام وبعيدًا عن العقوبات وطرد الدبلوماسيين وهو يصب في عمق المساعي والمصالح الروسية.
صحيح أنّ ترمب جاء بخطاب شعبوي، مفاده تحقيق مشروع “أمريكا أولًا”، لكنّه لم يخفِ إعجابه وتوافقه مع ما يقوم به الرئيس الروسي ونشر فيه تغريدات تصل لحد الغزل في موقعه المفضل “تويتر” .
الطرف الآخر المستفيد من الانسحاب الأمريكي، تنظيم الملالي في إيران، حيث تتطلع طهران وتنظيمها المدعو بالحرس الثوري إلى إنجاز الهلال الشيعي الذي يمتد من طهران إلى بيروت “المياه الدافئة”، والمناطق التي ستنسحب منها أمريكا هي في صلب هذا المشروع.
ويمكننا القول إنّ القرار يقدم خدمة عظيمة لإيران التي تعتقد أنّها الطرف الذي سيملأ الفراغ الأمريكي.
هنا علينا أن نتوقف أمام تصريح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي عبّر عن عدم ارتياحه للانسحاب الأمريكي لأنّه سيخدم إيران.
وما بعد إيران، “تركيا” التي هي في حال أخذ ورد مع السعودية وبخاصةً في ظل الأزمة الخليجية مع قطر، والموقف التركي من مصر.
في السياق ذاته، تركيا هي أيضًا مستفيدة بقدر كبير من الانسحاب الأمريكي شمال شرق سوريا، لأنّه سينهي نوعًا ما الجدل القائم منذ سنوات بين أنقرة وواشنطن بسبب تبني العصابات الكردية التي تشكّل خطرًا وجديًّا على تركيا، وتعتبرها تنظيمًا إرهابيًّا.
وربما نتيجة تفاهمات بين الطرفين، تكون تركيا من يملأ الفراغ الأمريكي لأنّ من مصلحة أمريكا أن تعيد العلاقات الودية مع تركيا في ظل التقارب الروسي التركي الذي يقوّي موقف روسيا أمام تصاعد خلافات حلف “الناتو” ودول أوروبية كثيرة مع روسيا التي أعلنت نجاح تجارب إطلاق صاروخ عابر للقارات غير محدد المسافة، الأمر الذي يهدد أوروبا عامةً.
وبالنظر للتخوف الأوروبي من تنامي النفوذ الروسي وطول ذراعها، يمكننا القول إنّ أوروبا ستضطر لقبول ملء الفراغ الذي سيتسبب به الانسحاب الأمريكي من سوريا، بهدف تقويض الفجوة الأوروبية التركية، وبخاصةً أنّ تركيا لم تستخدم حق “الفيتو” في حلف الأطلسي الذي قرر طرد ممثلي روسيا لدى الحلف ورفض قبول أعضاء روس جدد.
ولو أضفنا أنّ ترمب وقّع على قرار تجميد الأموال بملايين الدولارات لدعم العمليات الأمريكية في سوريا بما فيهم الميليشيات الكردية، لحصلنا على دليل آخر بأنّ تركية ستكون المستفيد الرئيس من الانسحاب الأمريكي المزعوم.
الداخل الأمريكي
وزارة الدفاع وضعت خططًا لتعزيز نفوذ أمريكا والميليشيات الحليفة لها في سوريا، وقامت ببناء قواعد لها تتجاوز الستة عشرة قاعدة، منها مطار الطبقة العسكري بالقرب من مدينة الرقة التي تسيطر عليها أمريكا والعصابات الكردية، وهو مطار كبير يتسع لطائرات الشحن العملاقة بعد أن قامت أمريكا بتطويره.
ويعتقد مراقبون أنّ المطار يمكن استخدامه في مرحلة مقبلة كبديل عن قاعدة إنجرليك التركية التي تساهم مساهمةً كبيرةً في عمليات حلف الناتو والتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، كما أنّ أمريكا شرعت في بناء قاعدة عسكرية بالقرب من حقل “العمري” النفطي، وهو من أكبر الحقول النفطية في سوريا.
ربما ترامب لا يعلم بهذا، وهو الباحث عن الأموال والثروات وهو لا يعلم أنّ أمريكا تضع يدها على معظم مكامن الثروة النفطية في شمال وشرق سوريا، وإلا لكان أعاد تفكيره وهذا ما أظن أنّه سيحدث، ونحن نعد هذا التقرير أيضًا شرعت أمريكا في بناء قاعدة عسكرية لها في منبج وأرسلت 300 جندي إليها من أجل منع الأتراك من القيام بأي عمل عسكر فيها كما أعلن الرئيس التركي منذ أيام.
كما أنّ وزارة الخارجية الأمريكية وبالتعاون مع وزارة الدفاع سبق أن قالوا إنّ الوجود العسكري في سوريا سيستمر إلى فترة غير محددة، وأنّهم لن يكرروا نفس الخطأ في العراق وأفغانستان حين انسحبوا من “الأخيرة”، الأمر الذي كان نتيجته سيطرة “طالبان” و”القاعدة” عليها، والانسحاب من العراق غير المدروس الذي تسبب بكوارث منها ظهور تنظيم “الدولة” وسيطرة إيران على العراق.
إذًا.. لا نعتقد أنّ الدولة العميقة في أمريكا واستراتيجيها سيقبلون بقرار ترامب بالانسحاب من سوريا، وبخاصةً أنّه لا يخدم المشروع الأمريكي المعلن في تقليم أظافر وأذرع إيران في المنطقة وبخاصةً مع توجه الرئيس الأمريكي للتملص من الاتفاق النووي مع إيران.
أما القول إنّ ترامب وإدارته يتخوفون من أن يصبح الجنود الأمريكيون لقمةً سائغةً للعصابات الإيرانية في سوريا، فهذا كلام في الهواء.. أمريكا لديها قوة عسكرية في العالم وقادرة على محو إيران من الوجود خلال ساعات، وهي تمتلك أكثر من 3700 رأس نووي، وحاملة طائرات تعمل بالقوة النووية إضافةً إلى مجموعة غواصات نووية.
وكلنا شاهدنا كيف قامت أمريكا بسحق العصابات الإيرانية والقوات الروسية، حين اخترقت خطوط أمريكا الحمراء في مناطق نفوذها شرقي الفرات، ودمّرتهم دون رحمة ولم تتجرأ إيران وروسيا على الرد بل تهربوا من الأمر.
لست ممن يعتقدون أنّ أمريكا ستنسحب من سوريا وبخاصةً لو علم ترامب بحجم الثروة التي تحت يد قواته في تلك المنطقة.
ميسرة بكور
كاتب وباحث سوري – برلين
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=49861