بكر محمد البدور / خاص تركيا بالعربي
أخذ الكماليون على عاتقهم تأسيس دولة تركية في الأناضول فقط، والقطيعة التامة مع العهد العثماني, وقد تأثر فكرهم السياسي بأفكار الثورة البلشفية سيما تلك الأفكار التي تنادي بالقطيعة التامة مع الدين، وتمكن مصطفى كمال الذي تزعم هذا التوجه من تحقيق أهدافه بعد حرب الاستقلال، وتوقيع معاهدة لوزان مع الحلفاء، وقد تُوِّج نجاح كمال بإعلان قيام النظام الجمهوري بتاريخ 29 أكتوبر تشرين الأول 1923، كما تأسس حزب الشعب الجمهوري والأحزاب اليسارية الأخرى على هذه الأسس.
وقد ساعدت الظروف الداخلية والخارجية في تركيا الحديثة في صعود الكماليين عبر توظيف الانتصار في حرب الاستقلال التي شاركوا فيها ضد الحلفاء الذين احتلوا كثيرًا من الأراضي التركية في الأناضول في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتمكن هذا التيار من السيطرة على الجيش حكمًا إذ أن جل رموزه من العسكريين، وأخذ على عاتقه السعي إلى إعادة صياغة شكل وهوية الدولة والشعب.
الأسس التي بنى الكماليون عليها جمهوريتهم
تم تحديد الأسس التي ستقوم عليها الدولة الوليدة بمايلي
الاستقلال ضمن حدود الأناضول وبعض المناطق المجاورة له ومعنى هذا التخلي عن مساحات كبيرة من الأراضي التي حكمها الأتراك لمئات السنين.
والأساس الثاني هو الحداثة في كافة مجالات الحياة بما فيها الدولة والمجتمع، والأساس الثالث هو علمانية الدولة والشعب وقطع الصلة بكل ما هو ديني مما أحدث حالة من الأنفصام بين الشعب الذي يدين منذ قرون طويلة بالإسلام وحكم العالم به وبين الدولة الناشئة فكيف يشعر المواطن بالانتما إلى دولة لا ترتبط بتراثه الحضاري ولا بهويته الثقافية التي تشكلت عبر تاريخ طويل ، والأساس الأخير تأسيس اقتصاد يقوم على التصنيع في المقام الأول كما هو الحال في الدول الأوروبية.
مؤسسات لحماية العلمانية
صاغ الكماليون مفهومًا خاصًا بهم للعلمانية لا ينطوي على فصل شؤون الدين عن شؤون الدنيا وحسب كما هي العلمانية الغربية، ولكنهم أرادوا إلغاء التدين باعتباره قوة مؤثرة في حياة المجتمع، ولما كانت العلمانية في تركيا مفروضة على الشعب بالقوة والإكراه وليست نابعة من إرادته كان لا بد للكماليين من إيجاد مؤسسات تروج للعلمانية وتقوم بحمايتها واستمرار فرضها بكل أشكال القوة الناعمة والخشنة على حد سواء ومن أبرز هذه المؤسسات المؤسسة العسكرية إذ يعد الجيش التركي منذ قيام الجمهورية حامي قيم الجمهورية العلمانية والوصي الأمين على الالتزام بمقتضياتها وقد تدخل الجيش مرات عدة في الحياة السياسية عبر انقلابات عسكرية عديدة كان آخرها المحاولة الإنقلابية الفاشلة في شهر تموز من العام 2016.
وكذلك المؤسسات الإعلامية فقد أخذت المؤسسات الإعلامية على عاتقها مسؤولية تحريض الجيش ضد الحكومات كما حدث في العام 1997، عندما هاجمت وسائل الإعلام حكومة نجم الدين أربكان لتأليب الشعب ضدها وبالتالي تقبل الانقلاب عليها لا حقًا.
بالإضافة إلى جمعيات رجال الأعمال والصناعيين وتضم أكثر رجال الأعمال ثروة، وتعد من المؤسسات البارزة التي تعمل على حماية العلمانية بغرض حماية المصالح الاقتصادية لمنتسبيها.
وأخيرًا المؤسسة القضائية فبرغم النصوص الدستورية والقانونية الصريحة على استقلالية القضاء وحياديته فإن المؤسسات القضائية على اختلاف مستوياتها انحازت صراحة إلى صف العلمانية خاصة في المسائل التي كانت تعد تهديدًا لتلك العلمانية.
إلا أن الإصلاحات الدستورية والقانونية العديدة التي أجرها حزب العدالة والتنمية منذ توليه السلطة أعادت كثير من الامر إلى نصابها وتكلل كل ذلك بتحويل النظام السياسي في البلاد من نظام برلماني إلى نظام رئاسي أكثر استقرارًا
مركزية الدولة ذريعة الاستبداد
تعد مركزية الدولة من أبرز الأفكار التي قامت عليها الثقافة السياسية للكماليين بل تعد هذه المسألة الملمح الرئيس في تلك الثقافة التي كرسها حزب الشعب الجمهوري فبالرغم من إعجاب نخبته السياسية بالغرب، إلا أن هنالك تباينًا كبيرًا بين فهم هذه النخب والفهم الغربي للدولة، ففي الوقت الذي ترى فيه التقاليد الغربية أن الدولة وليدة المجتمع المدني، ونتاج من نتاجاته، نظرت النخبة الكمالية إلى الدولة باعتبارها كيانًا فوقيًّا، يسمو على كل الكيانات، بما فيها المجتمع المدني ذاته، ولعل ذلك ما يفسر محدودية دور مؤسسات المجتمع المدني في بدايات العهد الجمهوري. ومنذ قيام الجمهورية التركية عام 1923 شهدت الحياة السياسية التركية عداءً واضحًا بين الدولة والمجتمع، وحالة من انعدام الثقة.
ملامح المشهد الاقتصادي منذ عام 1945 وحتى نهاية السبعينيات
وعلى الصعيد الاقتصادي نجد باستعراض المراحل التاريخية التي مر بها الاقتصاد التركي أن الأطر العامة لهيكلية الاقتصاد لم تتعرض لأي إصلاحات تذكر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وما ترتب عليها من خسارة تركيا لمعظم أسواقها الخارجية رغم وقوفها على الحياد عسكريًا.
ويمكن أن نرسم ملامح المشهد الاقتصادي التركي في الفترة الممتدة بين 1945 و 1979 على النحو الآتي
الشعبوية والدولانية وسيطرة القطاع العام .
اتباع سياسة اقتصادية تتمحور حول الاقتصاد الداخلي بشكل أساسي.
فرض إجراءات حمائية لصالح الشركات الوطنية.
قلة الاستثمارات الأجنبية.
فرض قيود مشددة على الواردات والشركات الأجنبية.
تراجع الصادرات بفعل تعقيد البيروقراطية وانتشار الفساد.
تراجع الإيرادات الحكومية اللازمة للنهوض بقطاع الصناعة.
صعوبة تأمين المواد الأولية الخاصة بالصناعة.
بالإضافة للعشوائية وعدم التنظيم وقلة الفاعلية في القطاع العام وتوظيف هذا القطاع من قبل النخب السياسية لتحقيق مكاسب ذاتية على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، وإغراق مؤسسات القطاع العام بعدد كبير من الموظفين للحد من البطالة الأمر الذي تسبب في تواصل العجز في الميزانية، وارتفاع نسبة التضخم والمديونية، وانخفاض قيمة العملة التركية وبالتالي زيادة نفقات الدولة، وضعف الاقتصاد عموماً.
سياسة تابعة ودور إقليمي هامشي
وعلى صعيد السياسة الخارجية ظلت تركيا في عهد حزب الشعب الجمهوري منغلقةً على ذاتها بعيدةً عن محيطها الإقليمي قليلة التأثير فيه ولم يكن القرار السياسي يحظى بالاستقلالية الكافية التي تنطلق من مصالح الشعب والدولة التركية بل ظل القرار السياسي أسيرًا لمصالح القوى الخارجية التي تحالف معها حزب الشعب الجمهوري كما رضي الحزب الحاكم بالوظيفة التي حددها الغرب للدولة التركية الوليدة وهي التماشي مع سياسته ومصالحه والترويج لها من جانب وأن تكون تركيا رأس حربة للغرب في مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق ونقطة إنطلاق للعمليات العسكرية إذا تطلب الامر ذلك .
والآن وبعد تراجع حزب الشعب الجمهوري وتعثره في العديد من الانتخابات التي خاضها هاهو يطرح مرشحه للانتخابات الرئاسية القادمة فهل يريد الحزب العودة بالبلاد إلى ما كانت عليه ويدير عجلة الزمان للوراء والرجوع إلى عهد المؤسس أم يعي أن تركيا اليوم غير تلك التي كانت مطلع الألفية الجديدة سؤال برسم الإجابة.
تنويه: مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي تركيا بالعربي وإنما عن رأي كاتبها
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=54081