بعد شهر ونصف من أول مظاهرة خرجت ضد نظام الأسد، خرجت أول دفعة لاجئين من سوريا باتجاه جنوب تركيا. 263 لاجئًا أجبرهم التصعيد العسكريّ في بلدتهم أواخر نيسان 2011 على التوجه إلى “هاتاي” (جنوب تركيا)، تلتهم دفعة لجوء أخرى إلى لبنان في منتصف أيار. أعداد اللاجئين حينها كانت قليلة، بخيارات محدودة بالبلدان المجاورة جغرافيًا لسوريا، مع ثقة مطلقة بأنها “مسألة أيام ونعود للمنزل”.
لم تكن المؤشرات تشي بأنّ تجربة اللجوء ستعمّم على أكثر من خمسة ملايين سوريّ، موزعين على ما يزيد عن 43 دولة حول العالم، فيما سيعرف بعد ذلك بأسوأ مأساة في القرن الحادي والعشرين.
أثّر هذا اللجوء القسريّ بشكل شامل على حياة كل من يعيشه من السوريين، التشريد، التشتت، الغربة، الوحدة، الفقر، صعوبات الزواج والإنجاب والتربية، اللغة، إرهاصات لا يمكن حصرها تتزايد مع الازدياد اليوميّ لأعداد اللاجئين، ومن بينها، معضلة البحث عن المكان الأفضل، وعدم الاستقرار بانتظار الاستقرار.
“عدّي على يديك، مصر، الأردن، تركيا (تنقلتُ فيها بين عدة مدن أيضًا) والآن قدمتُ أوراقي للسفارة الكندية، أنتظر القبول لأستقر هناك بعد هذا التشرد والتنقل المستمر”، يقول معتز (29 عامًا) من ريف دمشق، مختصرًا بذلك رحلة خمس سنوات من اللجوء المستمر، وحالة ملايين السوريين المتذبذبة، بحثًا عن حياة جديدة، وظروف جديدة.
بداية التغريبة
خرج معتز من ريف دمشق بداية عام 2012، مع اشتداد الحملة على مدينته وحملة الاعتقالات الواسعة في مدينة حرستا حيث يقيم، ومنذ ذلك الحين، لم يستقر في مكان واحد لمدة تزيد عن العام، يشرح لنا “كانت مصر في ذلك الحين تستقبل السوريين، فسافرتُ إليها وكلي أمل بالعودة، هناك حاولتُ العمل في عدة مهن، كانت ظروف عملي سيئة في كل منها، وزاد الطين بلة بُعدي عن أهلي وعيشي بمفردي، وكان ما حسم أموري الانقلاب العسكري الذي حصل في عام 2013، وتغير معاملة السوريين في مصر، وهكذا قررتُ السفر إلى الأردن، بعدما أخبرني صديقي أن الأحوال هناك أفضل، ومعاملة السوريين جيدة، وأنني سأجد عملًا على الفور”.
“البحر طحينة”
وهكذا، بنى معتز قراره على نصيحة صديقه وسافر إلى الأردن، لكن الغربة هناك لم تكن أقلّ، والظروف لم تكن كما وصف له صديقه، يقول “عندما حاول صديقي إقناعي بالسفر إلى الأردن، جعل (البحر طحينة)، وعلى هذا الأساس سافرت، لكن الواقع لم يكن مختلفًا، الأجور المتدنية للسوريين نفسها، ظروف العمل السيئة نفسها، والنظرة الدونية للاجئ هي هي”.
أقام معتز في البداية عند صديقه، لكنه بعد أيام من البحث عن عمل، ومواجهة الغلاء في الأردن مقارنة بالأسعار في مصر، بدأ يشعر بالندم، يتابع “بعتُ الأثاث الذي اشتريته في مصر بخسارة، ودفعتُ معظم مدخراتي على رحلة الانتقال للأردن، رغم وجود أقارب وأصدقاء لي في الأردن كان عليّ البحث عن عمل لأستأجر غرفة تأويني، فمن غير المنطقي أن أقيم على حساب أحد، وهكذا تراجعت أحوالي إلى شكل غير مسبوق، وصرتُ أفكر بكيفية الخروج من هذا المأزق”.
تحديّات جديدة
بعد عامٍ ونيّف من إقامته في الأردن، سافر معتز إلى تركيا، بحثًا عن استقرار لم يجده في مصر ولا في الأردن، يقول “كان وضعي في الأردن مزريًا، قبلتُ كل عمل عُرض عليّ بأجور منخفضة، بالكاد تسدّ أبسط الاحتياجات بسبب الغلاء الشديد، لم يكن بالإمكان العودة إلى مصر بسبب الحاجة لفيزا وتشديد إجراءات الدخول على السوريين، وهكذا كانت تركيا الخيار المنطقي الوحيد، وبالفعل سافرتُ، ومثل كل السوريين توجهت لاسطنبول”.
في تركيا، وجد معتز نفسه أمام تحديات جديدة، ليس أقلها اللغة، “غيّرت مكان إقامتي لكن ظروفي لم تتغير، وهنا في تركيا أضيفت تحديات جديدة مثل تعلم اللغة التركية التي لم أتعلم منها سوى مفردات بسيطة حتى اليوم، تنقلت بين شقي اسطنبول الآسيوي والأوروبي، وجرّبت العيش في ولاية هاتاي جنوبًا، ثم عدتُ لاسطنبول متخبّطًا جدًا مع قلة الخيارات المتاحة، منذ اضطررت للخروج من سوريا لم أستقر، وكلما توجهت لمكان جديد عدتُ لنقطة الصفر، لذا قدمتُ أوراقي للهجرة إلى كندا، عسى أن أجد الاستقرار هناك”.
كل البلاد مؤقتة
ليس التخبط الذي يعيشه معتز حالة خاصة به، فلكل السوريين على مختلف أماكنهم نصيب منه، ومن بينهم رؤى، خريجة أدب إنكليزي تقيم في تركيا، وتقول “بعد خروجنا من حمص، صارت الأماكن كلها بالنسبة لنا مؤقتة، وبشكل خاص السوريون في تركيا، فوضعنا القانوني غير واضح ويمكن تغيّره بين ليلة وضحاها، وهو الأمر الذي جعلنا (أنا وزوجي) نقرر الهجرة إلى أستراليا منذ بداية خطوبتنا، فما الذي ننتظره هنا؟”.
كان للاتفاق على أن إقامتهما في تركيا مؤقتة آثاره على حياة كل من رؤى وخطيبها، تقول “حاولنا تأجيل عرسنا مرارًا إلى حين وصول قبول طلبات هجرتنا، ولما طال الانتظار عامًا ونصف مع رفض طلباتنا مرة إثر مرة، قررنا الزواج (على الضيّق)، دون إقامة حفلة، ودون أن أشتري ثيابًا أو جهازًا، مع تأجيل الإنجاب حتى إشعار آخر، فلا نعرف متى يأتينا القبول ونضطر للسفر”.
بانتظار قبول طلباتهم المتكررة بالهجرة، أجّلت رؤى وزوجها الكثير من القرارات، وتخليّا عن الكثير من أساسيات الحياة “استأجرنا منزلًا مفروشًا لأننا لا نرغب بأن تكثر ممتلكاتنا ولا نجد وقتًا لبيعها، حتى اللغة التركية التي لن تفيدنا سوى في تركيا، الاستثمار الوحيد الذي نجده مجديًا اليوم هو تقوية لغتنا الإنكليزية”.
المكان الجديد لا يغيّر شيئًا
أمام الرغبة العامة بين اللاجئين السوريين بالبحث عن خيارات أخرى وظروف أفضل في بلد جديد، يجد محمد، وهو مهندس معلوماتية يقيم في تركيا، نفسه مضطرًا للتأكيد على استقراره في تركيا وعدم رغبته بالانتقال، يقول “كلما ألتقي بسوريين يكون السؤال (وبعدين، لوين مخطط تطلع)، وهنا أؤكد أنني سافرتُ إلى تركيا بناء على أسباب، ولن أخرج منها ما دامت ظروفي فيها مقبولة، منذ أن كنتُ في سوريا قبل عامين بدأتُ تعلم اللغة التركية، وهو أهم ما يشعرك بالاندماج والاستقرار في البلد الذي تنوي الإقامة فيه”.
يشير محمد إلى أن حالة التنقل المستمر والتخبط شائعة للغاية في محيطه بين أصدقائه وأقاربه، وهو ما يرى أنّه يفوّت عليهم فرصًا كبيرة للاستفادة من الأماكن التي يوجدون فيها، يضيف “كثرة الخيارات تجعلنا نتوه، ونحاول تجريب الخيار القادم لعله أفضل، لكن الإصرار على الاستفادة من كافة الفرص المتاحة في المكان الحالي هو فقط ما سيعود علينا بالفائدة والشعور بالاستقرار، الانتقال المستمر يعني البدء المستمر من نقطة الصفر، الحاجة لتعلم لغة جديدة، تعلم عادات مجتمع جديد، والاندماج بأنماط جديدة من البشر، وهو ما سيحول بيننا وبين الاستقرار الذي نسافر بحثًا عنه، ما أراه أن تغيير المكان لا يصنع السعادة، وتأجيل الاستقرار بانتظار الاستقرار سيضيّع الحياة دون جدوى”.
عنب بلدي
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=15520