باسم دباغ / العربي الجديد
يوجد في تركيا، وبحسب التقارير الرسمية، نحو 3.2 ملايين سوري، لا يسكن منهم سوى أقل من 10 بالمائة في المخيمات الخاصة باللاجئين المنتشرة في المناطق الحدودية السورية التركية، بينما يمكن تسمية أكثر من 90 في المائة منهم بلاجئي المدن، إذ تتربّع مدينة إسطنبول على قائمة المدن التي تضم السوريين بأكثر من 485 ألف نسمة، ترتفع باستمرار، تليها مدينة أورفة بأكثر من 428 ألف نسمة، ومن ثم هاتاي (لواء إسكندرون) بأكثر من 383 ألف نسمة، تليها مدينة عنتاب بأكثر من 333 ألف نسمة.
وتتربع كل من بلدية إسنيورت وباشاكشهير وسلطان غازي وغازي عثمان باشا وكوجوكجكمجة وباغجلار وسلطان باي وفاتح على رأس بلديات إسطنبول التي يفضل السوريون السكن فيها، وجميعها تقع في القسم الأوروبي من المدينة. ولكن تبقى بلدية الفاتح الأكثر جذباً للسوريين، حتى إن جولة قصيرة في شوارع المدينة تبدو كافية كي يلاحظ المرء مدى الكثافة السورية في المنطقة، سواء من خلال لافتات المحلات المكتوبة باللغة العربية أو من خلال اللهجة السورية التي يمكن سماعها في مختلف أطراف البلدية.
وتشكل بلدية الفاتح العمق التاريخي للمدينة أو قلب إسطنبول التاريخية، إذ تقع داخل أسوار المدينة التاريخية، على شبه جزيرة يحيط بها من الشمال القرن الذهبي (الخليج) ومن الشرق والجنوب بحر مرمرة، لتبدو كأنها تعيد إلى إسطنبول بآثارها وسكانها الجدد مكانتها كما كانت عاصمة للإمبراطورية العثمانية.
إعلان
لم تكن المرة الأولى التي تستقبل فيها منطقة الفاتح، التي تضم قبر السلطان محمد الفاتح في جامعها الفاتح الكبير، موجات اللاجئين أو الفارين من الحروب على الأقل خلال المئتي سنة الماضية، فقد كانت الموجة الأولى من المسلمين الهاربين من نيران الحرب الروسية العثمانية 1877 في البلقان، لتليها موجات متعددة من اللاجئين خلال العقدين الأخيرين، بدأت باللاجئين الشيشان الهاربين من الحرب الروسية في الشيشان، مروراً بالموجات المتلاحقة من اللاجئين العراقيين بعد الغزو الأميركي، وكذلك اللاجئين الليبيين وانتهاء باللاجئين السوريين، وكذلك اليمنيين والمصريين الفارين إلى تركيا بعد الانقلاب في مصر.
ويؤكد الستيني مرت، الذي يدير مكتب عقارات في منطقة الفاتح، أن المنطقة تلقت الكثير من موجات اللاجئين، بل وكانت وجهة محببة لهم لأسباب عديدة، تأتي على رأسها طبيعة سكان المنطقة المحافظة والمتدينة، التي ترى وجوب تقديم المساعدة لجميع المسلمين المظلومين، وكذلك كونها مركزاً تجارياً في قلب مدينة إسطنبول.
ويضيف: “لقد شهدت العديد من موجات اللاجئين، سواء من الشيشان أو العراقيين أو الليبيين، ولكن موجة اللاجئين السوريين هذه كانت الكبرى، معظم القادمين السابقين لم يستقروا في المنطقة ويسكنوا في منازلها ويفتحوا محلات ومطاعم وورشات عمل كما فعل السوريون، في بعض الشوارع تكاد ترى محلاً سورياً قرب كل محل تركي، حتى إن العديد من المحلات التركية عمدت إلى تشغيل عمال سوريين يجيدون العربية لمساعدتهم في تلبية حاجات الزبائن السوريين الذين يأتون للتبضع فيها”.
إعلان
يقاطعه أحد الجالسين في المحل قائلاً: “الموجات السابقة من اللاجئين كانت أصغر، ومعظمهم تعامل مع مدينة إسطنبول كمحطة مؤقتة، توجهوا خلالها إلى منطقة أكسراي في فاتح (المعروفة بكونها مركزاً للمهربين)، ومنها إلى الدول الأوروبية، هذا ما فعله العديد من السوريين، ولكن في النهاية توقف خط التهريب، ورفضت العديد من العائلات المحافظة السورية الذهاب إلى أوروبا، إذ رأوا أن في عادات وتقاليد المنطقة شيئاً يشبه المدن السورية التي جاؤوا منها على ما أعتقد”.
في شارع دار الشفقة، أو سورية الصغرى كما يطلق عليها أحد العاملين فيه، المتفرع من السور الخلفي لجامع الفاتح، حيث رفات السلطان محمد الفاتح، العديد من المحلات السورية، بين مطاعم ومحلات عطور وأخرى تبيع القهوة والنباتات العشبية والبهارات، حتى إن السائر في هذا الشارع يكاد يختلط عليه الأمر حول إن كان في أحد أسواق حلب أو دمشق أو أنه ما زال في إسطنبول.
إعلان
على بعد خطوات من سور المسجد، يقع مطعم فاتح الخير الذي يقدم الوجبات السورية، يقول عمر، أحد العاملين في المطعم: “قدمت من دمشق منذ أربع سنوات وبدأت بعدها بالعمل في المطعم الذي افتتح منذ أربع سنوات ونصف السنة، جميع العاملين من السوريين، حتى إننا لم نعد بحاجة إلى تركي يجيد العربية ليساعدنا في أي شيء، فقد تعلم السوريون التركية”.
ويضيف: “معظم زبائننا من السوريين، ولكن بات بإمكاننا الحديث عن وجود زبائن أتراك ممن أحبوا الطعام السوري وبالذات المقبلات كالفول والحمص والفتات وغيرها، نجلب جميع مستلزمات الطعام من الأسواق التركية، سواء عبر موزعين أتراك أو سوريين، وأستطيع أن أقول إن وجودنا حرّك المنطقة، فقد ارتفعت أسعار الإيجارات والمحلات. حاجز اللغة لا يترك لنا الكثير لنتحدث حوله وبالذات جيلنا، نعمل ونلتزم بالقوانين التركية ولا نزعج أحداً ولا أحد يزعجنا”.
إلى الأمام قليلاً تظهر أمام الزائر يافطات لمحل أبوعبدو للحلويات وأخرى لورشة تمديدات صحية والعديد من المحلات السورية، وكذلك محل “الفرقان للصياغة وبيع المجوهرات”، ويقول صاحب المحل: “أتيت من حلب إلى هنا، وافتتحنا المحل منذ عامين تقريباً في الفاتح لأنها مركز للسوريين، أما زبائننا فهم من السوريين وباقي الجنسيات العربية كالليبيين والعراقيين واليمنيين، ونادراً ما يأتينا زبائن أتراك، نجلب بضاعتنا من الورشات التركية، وعلاقتنا مع التجار الأتراك جيدة في إطار العمل لا أكثر ولا أقل”.
ويعبر صاحب محل الغبرة للعطور القادم من حلب عن ارتياحه للعمل في تركيا، وعن العلاقة مع الأتراك يقول: “ليس لدينا زبائن أتراك وجميعهم من السوريين، وبكل الأحوال أعامل الناس كما يستحقون، سواء كانوا أتراكاً أو سوريين، أطرد اللئيم وأحترم الطيب”.
وليس بعيداً يتوافد السوريون لشراء اللحوم من أحد المحلات التركية، وبينما يعبر المحاسب في ملحمة “بنار باشي إت” عن ترحابه باللاجئين السوريين في البلاد، يقول أحد العاملين السوريين فيها: “أتيت من ريف حلب، وتم تشغيلي في المحل للتعامل مع الزبائن السوريين والعرب”، مضيفاً: “لا أخفي عليك أنهم يستغلوننا في العمل، رواتبنا أقل من نظرائنا الأتراك وكذلك ساعات العمل أكثر، ونقبل بذلك لأننا نريد أن نعيش ونطعم أطفالنا”.
ويقول صاحب محل (بونجة الموعد) لبيع القهوة في شارع مالطة: “قدمت إلى إسطنبول بعد أن تركت حلب إثر الحرب منذ حوالي أكثر من ثلاث سنوات، بحثت في منطقة الفاتح عن محل لأعاود العمل في مهنتي، لأنها كانت منذ قدومي مركزاً لوجود السوريين”، مضيفاً: “الغالبية العظمى من زبائني من السوريين، إذ إن الأتراك يفضلون عموماً شرب الشاي، ويعمدون إلى شراء القهوة التركية المغلفة التي تختلف قليلاً في تركيبها عن القهوة السورية لناحية الهال والمستكة وغيرها من الأمور التي نضيفها إلى القهوة، أجلب المواد التي أبيعها من المحمصات التركية الموجودة في منطقة إمينونو”.
وعن العلاقة مع باقي التجار الأتراك، يؤكد أحمد وجود علاقة إيجابية معهم، بالقول “نسلم على بعضنا أحياناً ونتبادل أطراف الحديث بشكل مقتضب بسبب اللغة”.
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=57412