نعيم مصطفى / خاص تركيا بالعربي
لقد قُيض للولايات المتحدة الأمريكية أن يحكمها رجل فيلسوف حكيم وهو توماس جيفرسون الذي حاول أن يُغلّب في سياسته المبادئ والقيم على المصالح، وقد نجح إلى حدٍّ ما في هذا النهج، وقد أُثر عنه مقولة رائعة في هذا الصدد وهي قوله:
“عندما تتحدث عن طريقة العيش فاسبح مع التيار، وعندما تتحدث عن المبادئ قف كالصخرة”، ولكن بعد رحيله عن صناعة القرار خلف من بعده خلف أضاعوا المبادئ واتبعوا الشهوات والمصالح فحسب.
لم يعد يخفى على أحد ممن يراقب السياسة الخارجية الأمريكية بأنها تعتمد على البراغماتية البحتة في تعاملها مع الدول سواء كانت صديقة وحليفة أو حيادية أو معادية لها فالأمر سيان عندها.
فقد تسببت في إزهاق أرواح مئات الآلاف من البشر إن لم أقل الملايين في أفغانستان والعراق…ومازالت تتبع السياسة نفسها بل إنها رفعت من وتيرة تلك السياسة وحولتها من الخفاء والستر والتماس المسوغات إلى البوح والجهر والتغني على لسان رئيسها الحالي ترامب – الذي لا يفتأ لسانه عن ابتزاز الدول من أجل حمايتها أو عدم الاعتداء عليها – باعتناقها للبراغماتية.
إعلان
وقد أصاب الرئيس الباكستاني الأسبق ضياء الحق كبد الحقيقة عندما قال:
“إن الذي يتعامل مع أمريكا كالذي يتعامل مع الفحم لا يناله إلا سواد الوجه أو اليدين”.
وإذا ما تحولنا إلى المقلب الآخر وهو روسية وريثة الاتحاد السوفيتي السابق والتي تمتلك ترسانة نووية وأسلحة ثقيلة ومتميزة لا يمكن الاستهانة بها، فإننا نجدها لا تختلف في سياستها عن الولايات المتحدة إن لم نقل تبزّها بأشواط، فهي أيضا(روسية) تقدّس مصالحها ولوكان ذلك على أنهار من الدماء كما فعلت في الشيشان من قبل وتفعل الآن في سورية فقد قتلت مئات الآلاف من الأطفال والنساء والرجال، وهي تتبع سياسة الأرض المحروقة ولا تميز بين بشر وحجر وشجر، وهي أشد بطشاً وتهوراً ومروقاً من أمريكا في حروبها.
إعلان
ولو نظرنا إلى السياسيتين الخارجيتين الأمريكية والروسية لوجدنا أنهما لا عهد لهما ولاذمة، فلا يمكن التعويل على الاتفاقيات التي تُعقد معهما، فسرعان ما تحلّ عراهما لأي سبب مهما صغر، أو حتى بلا سبب، وقد رأينا ذلك عند روسيا عندما تخلت عن حليفتها العراق، وتخلت عن أكثر حلفائها الصرب عندما هاجمتهما أمريكا منذ سنوات خلت….كما لمسنا السيناريو ذاته عند الولايات المتحدة مؤخراً عندما تخلوا عن حلفائهم الأكراد في إقليم كردستان ومن ثم تخلوا عن حليفتهم القديمة تركية وكادوا توريطها في حرب مع روسية إبان إسقاط الأتراك طائرة للروس اخترقت أجواءهم.
فراح الأمريكان يشجعون تركية للدخول بحرب مع روسية وهم جالسون في صفوف المتفرجين.
إعلان
ومن خلال ما تقدم يمكننا الوقوف عند السياسة الخارجية التركية التي تُسلق بألسنة حداد من قبل بعض ضعاف النفوس وقصيري النظر.
إن تركية دولة مسلمة تقيم توازنات بين مبادئها الراسخة وبين مصالحها المتحركة، وبناء على ذلك ترسم سياستها الخارجية وتمارسها، فهي وقفت مع الربيع العربي ومع الشعوب المظلومة والمقهورة والمضطهدة وساندتها في كفاحها ضد الطغاة والمستبدين مع أن ذلك يعرقل مصالحها ويقف حجرة عثر أمام علاقاتها وظلت ثابتة كالطود على موقفها.
أما من ناحية تعاملها مع الدول الكبرى والعظمى فإن ذلك يختلف، ويجب أن تسود الحكمة والحنكة والدهاء على هذه الضفة وقد أدركت القيادة التركية وعلى رأسها الرئيس أورد غان – وتركية دولة كبيرة وقوية يحق لها أن تنافس الكبار وتقارعهم – فلم تختار أحد المعسكرين الأمريكي أو الروسي – كما تفعل بعض الدول الأخرى التي وضعت كل بيضها في سلة أمريكا فابتزتها الأخيرة وجعلت منها بقرة حلابة من دون أن تقدم لها سوى الوعود لكاذبة – وإنما وضعت قدماً في أمريكا وأخرى في روسية، فتارة تجنح إلى هذه وطوراً تجنح إلى تلك، وغالباً ما تصنع بينهما توازناً بنّاءً، فهي يمكنها أن تستورد السلاح من الدولتين كما أن الدولتين تحتاجان إليها فتحاولان خطب ودها بين الفينة والأخرى بسبب موقعها الجغرافي وإمكانياتها الكبيرة، كما أنها تصنع الأمر ذاته مع إيران، فتؤيدها حيناً وتتقاطع معها في مسألة الأكراد مثلا وتدعمها في الاتفاق النووي…وتختلف معها في أحايين أخرى كدخولها لسورية ومساندتها للأسد وكتمددها في بعض الدول العربية من أجل نشر التشيع.
ما تقدم يفضي إلى أن تركية تمسك العصا من الوسط بقوة وبكل براعة ومهارة وتلحظ بعينيها الحادتين قبضتي العصا عن اليمين وعن الشمال، حتى تحقق رؤاها المنشودة.
ونختم برأي الرئيس رجب طيب أو ردغان وهو المعني الأول إزاء المسألة التي تناولناها: “لا رغبة لتركيا بالتخلي عن العمل المشترك مع حليفتنا أمريكا، ولا عن العمل المشترك مع روسيا في مجالات الطاقة وغيرها، ولا مع إيران التي لها دور كبير في المنطقة، فعلاقاتنا مع روسيا والصين وإيران ليست بديلة عن علاقاتنا مع الغرب”.