نعيم مصطفى / خاص تركيا بالعربي
ما إن يفتح المرء على برنامج اليوتيوب ويكتب سياسة حتى تتدفق اليوتيوبات كالأنهار منها السمين وأكثرها غث، وبما أن الكرة الأرضية قد ضاقت – على رحبها – وتحولت إلى قرية صغيرة بفضل التقنيات(التكنولوجية) وتطور الاتصالات الأرضية والفضائية بوتيرة سريعة وعالية قد فاقت التصورات والتوقعات، فإننا أمام انتشار ظاهرة القنوات الشخصية على اليوتيوب بسبب سهولة صناعتها ورخصها، وقد كانت هذه الظاهرة نعمة للمبدعين المغمورين ومركباً يسيراً لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ونقمة للمتطفلين والمراهقين في السياسة والعلم والفكر.
وبما أن جلّ اهتمامي ينصب على علم السياسة وأخواتها من العلوم الأخرى كالتاريخ والأدب والدين…فإنني وقعت على شخصيات مختلفة في ثقافتها وفي أيديولوجيتها وفي انتماءاتها، ولكن لفت انتباهي أمر لم يسرني حقيقة وإنما أدخل إلى قلبي الحزن والكدر وهو أن معظم تلك اليوتيوبات أصحابها عبيد وليسوا أحراراً، والعبد في مفهومي هو الذي ليس له مبدأ ولا انتماء نابع من عقله وقلبه ووجدانه، وإنما مرتبط بجهاز تحكم من خلفه يسيّره كيف يشاء، فيمكنك أن تشاهد شخصاً قد انقلب على مبادئه خلال شهر أو أسبوع أو بين عشية وضحاها …وهذا الأمر ينافي المكانة السامية والرفيعة والتكريم الذي أودعه الله عزّ وجلّ فينا، فالدنيا الزائلة لا تستحق أن يلقي الإنسان فيها كل سلاله ويعرض عن جنة أبدية عرضها السموات والأرض.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن كيف يمكننا تمييز المنبر والصحفي المأجور من المنبر الحرّ الشريف.
للإجابة على هذا السؤال لابد من الإشارة إلى أن الذي يعيش بين ظهراني الدول الديمقراطية الحقيقية – والمحصورة تقريباً في أوربة الغربية والدول الاسكندنافية والولايات المتحدة …- تختلف حياته عمن يعيش بين جدران الدول المستبدة والديكتاتورية والمحكومة بالحديد والنار كروسية والصين وكورية الشمالية والدول العربية الخ…
فالذين يعيشون في ربوع الدول المناهضة للديمقراطية حُكماً لا يمكنهم توجيه النقد لأنظمتهم لأن مصيرهم محتوم بالسجن أو بالقتل، وهذا لا يسوغ نفاقهم لأن أصحاب القضايا والمبادئ الحقيقية يبحثون عن الأرض الصالحة والمناخ الملائم الذي يتقاطع مع رسالتهم التي يؤمنون بنشرها – وكما قال الشاعر –
وما هذه الدنيا بغير كرامةٍ سوى جيفةٍ أهوِنْ بها ثُمَّ أَهْوِنِ
ويمكننا أن نستحضر مشهدين ونموذجين لبلدين عربيين هما مصر وسورية عقب اندلاع ثورتيهما المباركتين ثورة \25\ يناير وثورة آذار مارس.
بعد أن تمَّ الانقلاب على الثورة المصرية وتم إجهاضها، فُتح الباب وبدأ الامتحان للأشخاص المعروفين سواء كانوا رؤساء أحزاب أو أعضاء، أو كانوا إعلاميين…
فالذين آثروا البقاء في مصر وقبلوا بتغيير خطابهم وأفكارهم بما يتناسب مع الحاكم الجديد هم أصحاب المبادئ الرقيقة بل المعدومة.
والذين اختاروا الضفة الثانية وهي الثبات على مبادئهم فكانوا إما في السجون أو فضلوا الصمت والانسحاب أو فضلوا الفرار إلى دول أخرى.
ولو تحولنا إلى سورية لوجدنا المشهد أشد ضراوة من مصر لأن الجرائم كانت وحشية وفظيعة ولا يمكن وصف قساوتها، ولكننا إذا ما عدنا إلى الشق السياسي في حديثنا وجدنا أن المشهد يشبه ما جرى في مصر والمنابر التي اختارت البقاء في سورية والتسبيح بحمد الأسد، حافظت على مكتسباتها من مال ومناصب، والذين آثروا التمسك بمبادئهم، قد فرّوا إلى دول أخرى تاركين وراءهم أموالهم وعقاراتهم.
أعتقد من خلال العرض السابق يتبين لنا جلياً الرجال الأحرار والشرفاء الذين ضحوا بالغالي والنفيس والرخيص من أجل المبادئ التي يعتنقونها ونحسبهم صادقين، وبين الرجال الخبثاء الأشرار الذين يقدسون الدولار والمناصب ولو على جثث ودماء الآخرين.
ولو عدنا إلى أشخاص اليوتيوبات ووقفنا عند بعض النماذج – دون ذكر الأسماء – لوجدنا المشهد كما ذكرت يُندى له جبين الإنسانية.
فطابع الاصطفاف خلف المصالح والمال والطائفية، لا تخطئه البصيرة وهو الكفة الراجحة للأسف.
فهناك مثلاً صحفيان يبثان مقاطعهم من أمريكا وبريطانية – الدولتان الديمقراطيتان كما أشرنا سابقاً – نجدهما يتحدثان عن محاسن الديمقراطية التي ينعمان بها – وهذا صحيح – ولكن كيف يمكننا اكتشاف ارتباطاتهما بأجندات؟ من خلال انحيازهما للباطل وللظالم.
فمثلاً الذي يتحدث من أمريكا يشيد بدساتيرها وقوانينها – وهذا حق – ويذم حكام الإمارات ومصر والسعودية وقمعهم لشعوبهم وجهلهم – وهذا حق – لكنه لا يلبث أن يقع في فخ داعميه ومموليه، فيشيد بإيران المجرمة الطائفية القمعية، وبشار سفاح سورية.
والذي يتحدث من بريطانية، أيضاً لا يفوت الفرصة كلما سنحت له ليتحدث عن الرخاء والرفاهية والحرية التي ينعم بها في بريطانية – وهذا حق – ولكن لا يلبث أن يقع كسلفه في فخ العمالة فيشيد بإيران وبشار وهما من هما في سجل جرائم الحرب التي يرتكبونها.
ولو تحولنا إلى شخصية أخرى في دولة مستبدة وقمعية، ووقفنا عند شخصية متحمسة في كشفها لعورات إيران القاتلة المستبدة – وهذا حق – وذمها للسفاح القابع في دمشق والذي يقتل شعبه منذ سبع سنين – وهذا حق – لقلنا إنها شخصية حرة شريفة، لكن هذه الشخصية لا تلبث أن تسقط في فخ مموليها ومشغليها، عندما تحاول تلميع أسوأ شخصية قد عرفها العالم العربي والإسلامي وهي شخصية محمد ابن زايد ذاك الذي سخر كل أمواله الطائلة وطاقات بلاده الثرية للحرب على الشعوب العربية والإسلامية ومناصرته لأعداء الأمة من الإسرائيليين والأمريكان وغيرهما….
صفوة القول مهما امتد حبل الشر والمنافقين فإن هناك سفينة الخير والصادقين لهم بالمرصاد.
وأختم بمقولة الزعيم الحر الشريف نلسون مانديلا:
“إذا قبضت المال ثمناً لنضالي سوف أتحول من مناضل إلى مرتزق”.
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=48927