فن المناظرات .. بقلم نعيم مصطفى / تركيا بالعربي
لو غصنا قليلاً في بطون الكتب التراثية لوجدنا أن ثمة ظواهر وقضايا ونظريات وإيديولوجيات قد سادت في حقبة من الزمن ثم بادت، وهناك فنون قد أفل نجمها ثم نهضت من جديد وانتعشت كما نرى ذلك في فن المناظرات الذي كان حضوره قوياً في العصور العربية الفارطة وبلغ ذروة مجده في العصر العباسي ثم بدأ بالتراجع والترهل إلى أن جاء عصرنا الحديث الذي حمل في طياته ثورة علمية وانفجار معرفي أدهش العقول وعلى رأس ذلك التطور التقني، التلفاز والشبكة العنكبوتية التي جعلت بحق العالم قرية صغيرة.
ونلاحظ أن التلفاز وما يضخ عبر قنواته من برامج قد أعاد لنا فن المناظرات بلبوس جديدة يجعل المتناظرين يحظيان بمشاهدة كبيرة تتجاوز الملايين من الناس بعد أن كانت المناظرات تحظى بحضور عشرات الأشخاص على الأكثر
والآن نشرع معاًفي زورق المناظرات للتعرف على هويتها.
إعلان
مفهوم المناظرة:
يقول أبوهلال العسكري:”والناس في صناعة الكلام على طبقات؛ منهم من إذا حاور وناظر أبلغ وأجاد، وإذا كتب أو أملى أخلّ وتخلّف. ومنهم إذا أملى برّز، وإذا حاور أو كتب قصّر”(1)
ويُفهم من قوله، أن الناظرة فن ارتجالي مستقل بنفسه عن بقية الفنون الأخرى، بالإضافة إلى أنه موهبة لا تتاح لكثير من الناس، فاعتماد النجاح في المناظرة على الاختيار الدقيق للدليل المناسب في موضعه المناسب، يتطلّب حدّة الذهن وبسرعة البديهة التي تمكّن المناظِر من هذا الاختيار، فقد سُئل الشافعي عن أقدر الناس على المناظرة فقال: من عَوّد لسانه على الركض في ميدان الألفاظ، ولم يتلعثم إذا رمقته العيون بالألحاظ (2)
إعلان
ولابد لنا من تحديد المعنى اللغوي للمناظرة كما ورد في المعاجم.
فقد جاء في لسان العرب: المناظرة: أن تُناظر أخاك في أمر إذا نظرتما فيه معاً كيف تأتيانه. والتّناظر: التراوض في الأمر (3)
إعلان
وجاء في القاموس المحيط:
والتناظر: التراوض في الأمر (4)
وجاء في المعجم الوسيط: ناظر فلاناً صار نظيراً له. وتناظروا في
الأمر: تجادلوا وتراوضوا، والمُناظر: المجادل المحاجّ.
وبعد الوقوف عند المعنى اللغوي للمناظرة نتحول الآن إلى تعريفها
(1) كتابة الصناعتين تصنيف أبي الهلال العسكري
(2) فن المناظرات في أدب الترسل في القرن الثالث للهجرة خولة الحليبي
(3) لسان العرب لابن منظور مادة نظر
(4) المعجم الوسيط مادة نظر
عرف الكفوي المناظرة بقوله: “المناظرة هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب”(6)
ويمكنني تعريف المناظرة بناءً على ما تقدم بأنها: مجادلة فاعلة بين شخصيتين أو فريقين ينبغي أن يكونا على قدر كبير من الثقافة، هدفها إثبات نظرية أو رؤية أحدهما عن طريق سوق الأدلة والبراهين التي تعزّز موقفه ومن خلال ذلك يضخ الشصان أو الفريقان ما لديه من معلومات وافرة يستفيد منها المتلقين.
نشأة المناظرات:
ظهرت المناظرات بظهور الإسلام ودعوة الناس إلى ترك عبادة الأصنام والاتجاه إلى عبادة الله وحده، فكان من الطبيعي أن تظهر المناقشات أو المناظرات بين فريقين يدين كل منهما بعقيدة تخالف عقيدة الفريق الآخر.
ونزل القرآن الكريم على محمد صلى الله عليه وسلم وصور لنا بعض هذه المناظرات حيث يقول:”وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم “يس 77-78
وهنا يحكي مناظرة جرت بين النبي عليه السلام وأبيّ بن خلف (7).
إعلان
ولم تبق المناظرات في إطارها الديني فحسب وإنما اتسعت موضوعاتها لتشمل السياسة والأدب والفلسفة ……كما سنرى لاحقاً.
إعلان
إعلان
آداب المناظرات:
إعلان
كان للمناظرة آداب وتقاليد مرعية قوامها الاحترام المتبادل والعفة في القول ومراعاة الاتزان والمحافظة على حسن المظهر أثناء الجدال والمناظرة. ويلخص هذه الآداب قول أحمد بن أبي دؤاد لإبراهيم بن المهدي:
” يا إبراهيم. إذا نازعت في مجلس الحكم امر أفلا أعلمن أنك رفعت عليه صوتاً ولا أشرت بيد. وليكن قصدك أمما وريحك ساكنة وكلامك معتدلاً”(8)
ولو نظرنا اليوم إلى المناظرات التي تُعقد عبر بعض القنوات الفضائية لوجدنا أنها أبعد ما تكون عن هذه الآداب، فلغة الشتم والسباب تسود تلك المناظرات وتكاد تذهب بجلّ وقت المناظرة ويعود ذلك في نظري إلى ضعف ثقافة المتناظرين واعتمادهما على العاطفة دون العقل.
(7) المناظرات في الأدب العربي إلى نهاية القرن الرابع- د أحمد أمين مصطفى
إعلان
موضوعات المناظرات:
إن المناظرات تناولت معظم جوانب الحياة وطرقت موضوعات دينية وسياسية وأدبية ونحوية وفلسفية، وبرزت هذه المناظرات في صور شتى.
فأحياناً تكون المناظرة مشافهة، وأحياناً تكون مراسلة، وأحياناً تكون عن طريق تأليف الكتب ثم الرد عليها. وقد تطول هذه المناظرات تقصر.
أ) المناظرات الدينية:
عرض القرآن الكريم لبعض المناظرات التي عُقدت بين الأنبياء وبين الطغاة المارقين والمعاندين كالطاغية نمرود الذي ادّعى الألوهية فناظره إبراهيم عليه السلام بالحجة والبرهان والمنطق:
” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ”(9)
وقد حاور الرسول عليه الصلاة والسلام وناظر بعض المناوئين والمشككين ومن ذلك تلك المناظرة المقتضبة التي دارت بينه صلى الله عليه وسلم وبين قدريّ:
وقد ذكرها ابن عبد ربّه في”العقد الفريد”بقوله:
“حدثنا يونس بن بلال عن يزيد بن أبي حبيب ،أنّ رجلاً قال للنبي: يا رسول الله –أيقدّرالله عليّ الشر، ثم يحاسبني عليه ؟ قال: نعم وأنت أظلم”(10)
فالمحاورات والمناقشات كانت موجودة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام لكن وإن وُجدت المناظرة في عهد الرسول الكريم إلا أنه لم يكن يُتاح لها فرصة التمادي في الجدل خوفاً على أمور الدين، وقد دارت مناظرات شعرية كثيرة بين شعراء المسلمين الذين دافعوا عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام والدين الجديد وشعراء قريش الذين هجوا الرسول الكريم ودعوته الجديدة.
“وقد برز في هذا المجال شعراء كثر من أمثال أبي سفيان بن الحارث وعبدالله بن الزّبَعري، وضرار بن الخطاب الفِهري ،وأبي عزة الجمحي…….وغيرهم”(11)
وفي مقابل هؤلاء الشعراء كان هناك من يدافع عن الدعوة الجديدة ويأخذ على عاتقه الدفاع عن الرسول الكريم في شعره بعد كل معركة من أمثال حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة ويروي صاحب الأغاني أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ما منع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان: أنا لها يا رسول الله وأخذ بطرف لسانه (13)
ب-المناظرات الأدبية:
إلى جانب ما رأينا من مناظرات دينية كانت هناك مناظرات أدبية، وكثيراً ما ترتب على هذه المناظرات صعود وهبوط، صعود الفائزين وهبوط المهزومين.
ومن أشهر المناظرات الأدبية في الأدب العربي مناظرتان حدثتا في القرن الرابع الهجري. أما إحداهما فكانت بين الحاتمي والمتنبي، وأما الأخرى فكانت بين بديع الزمان الهمذاني وأبي بكر الخوارزمي.
إن المناظرة الأولى بين الحاتمي والمتنبي قد ذكرها الحاتمي وهذا يعني أن المصدر ليس حيادياً ولا موضوعياً وقد أظهر في النهاية براعته وتفوقه على المتنبي في اللغة والنقد.
والمناظرة الثانية بين بديع الزمان والخوارزمي أيضاً ذكرها الهمذاني (14)
ويبالغ في وصف هزيمته للخوارزمي حين دعي لمناظرته، على أنه ينبغي أن نتلقى هذه المبالغة بشيء من الاحتياط، لأن البديع هو الذي رواها في رسائله من جهة، ولأن الخوارزمي كان له خصوم في نيسابور وقفوا ضده فيها من جهة أخرى (15)
(وسأذكر في نهاية المقالة جزءاً يسيراً منها لأهميتها)
وهناك المناظرات النحوية وأشهرها التي وقعت بين سيبويه زعيم البصريين، والكسائي زعيم الكوفيين وكانت بحضرة زعماء البرامكة يحيى بن خالد وولديه جعفر والفضل، وسميت (الزنبورية) لقول الكسائي في سؤاله: كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور.
وموجزالمناظرة:
حضر الكسائي فأقبل على سيبويه فقال تسألني أو أسألك؟ فقال بل تسألني أنت فقال الكسائي: كيف تقول: كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي؟ أو فإذا هو إياها؟
فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب، فقال الكسائي: لحنت ثم سأله عن مسائل أخرى (16)
ج_المناظرات الفلسفية:
اهتم العلماء العرب بدراسة الفلسفة كتطور طبيعي للنهضة الثقافية التي عمت الدولة العربية، وكانت المناظرات بين علماء الكلام وغيرهم دافعاً قوياً لتعلم الفلسفة إذ رأوا خصومهم يتعلمون الفلسفة ويستخدمون نظرياتهم في مناظرتهم، فكان لابد من مجاراتهم في ذلك حتى يدحضوا حجج خصومهم.
ثم ظهر فلاسفة المسلمين وصار لكل منهم مذهب فلسفي معروف واختلف هؤلاء الفلاسفة في مواقفهم حيث دار بعضهم في فلك الإسلام وخرج بعضهم عن النظريات الإسلامية ويهمنا هنا شخصيتان من الفلاسفة العرب هما أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، وأبو حاتم الرازي حيث جرت بينهما مناظرات شهيرة.
والمعروف عن محمد بن زكريا الرازي أنه ينكر النبوة وإن اختلف المؤرخون في موقفه، وقد ناظره الرازي، ورد عليه وفند آراءه وحججه (17)
_مقتطفات من المناظرة الشهيرة بين الهمذاني والخوارزمي:
قال البديع:
يا نعمة ًلاتزال تجحدها ومنّةً لاتزال تكندها
فقال أبوبكر: الكنود قلّة الخير لا الكفران فكذّبه الجمع وقالوا: ما قرأت قوله تعالى: ” إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ” (6) سورة العاديات؟ أي الكفور.
فقال له “أبوبكر “أنا اكتسبت بفضلي دية أهل همذان فما الذي اكتسبت انت
بفضلك؟ فقال له البديع: أنت في حرفة الكُدية (*) أحذق، وبالاستماحة أحرى وأخلق (*)، فقطعه الكلام الخوارزمي، ثم أنشد:
وشبّهنا بنفسج عارضيه بقايا اللّطم في الخدّ الرقيق
فقال الخوارزمي أنا أحفظ هذه القصيدة.
فقال البديع: أخطأت فإن البيت على غير هذه الصيغة وهي:
وشبّهنا بنفسج عارضيه بقايا الوشيم في الوجه الصفيق (*)
فقال أبوبكر والله لأصفعنك ولو بعد حين ٍ!
فقال البديع: أنا أصفعك اليوم، وتضربني غداً، اليوم خمر وغداً أمر، وأنشد قول “ابن الرومي “:
رأيت شيخاً سفيهاً يفوق كلّ سفيه
وقد أصاب شبيهاً له وفوق الشّبيه
أخا مِقةٍ (*) حتى يُقال سجيّةٌ ولوكان ذاعقلٍ لكنت أعاقله
…………………
فلما أقام “أبوبكر “أشار إلى البديع وقال: لأ تركنّك بين الميمات، فقال: ما معنى الميمات؟
فقال: بين مهدوم، مهزوم، مغموم، محموم، مرجوم، محروم.
فقال البديع: لأتركنك بين الهيام والسقام والسام والبرسام والجذام والسرسام.(*)
وبين السينات: بين منحوس، ومنخوس، ومنكوس، ومعكوس.(*)
وبين الخاءات: من مطبوخ، ومسلوخ، ومشدوخ، ومفسوخ، وممسوخ0(*)…
وبين الباءات: بين مغلوب، ومسلوب، ومصلوب، ومنكوب.
فخرج البديع وأصحاب الشافعي يعظّمونه بالتقبيل والاستقبال، والإكرام والإجلال.
وما خرج الخوارزمي حتى غابت الشمس، وعاد إلى بيته وانخذل انخذالاً شديداً، وانكسف باله (*) وانخفض طرفه، ولم يحل عليه الحول حتى خانه عمره، وذلك في شوال سنة ثلاث وثمانين وثلاثمئة (18)
مقتظفات من مناظرة بين النرجس والورد:
فقال الورد: أين السهل من الممتنع، وكم بين المفترق والمجتمع. أنا ذو الوجه
الأقمر، والخد الأزهر، وإذا تأملت عيونك، كيف تناظرني ولي وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة، وأنت قد ضربت عليك الذّلة، وما اصفرارك إلا لعلّة.
فقال النرجس: يا قليل الوفا، و يا كثير الجفا، ألم تعلم أن التخليق (*) بالصفرة، من أمارات النصرة، وقال جماعة من الحكما: إنّ من أنحس الأشكال الحمرة.
فقال الورد: هذا لوني منذ كنت في أحشاء الأكمام مضغة، صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة.
فقال النرجس: ذهبت منك الحجة، واتضحت لي المحجة، وإن الدين بفضلي ظاهر لايختفى.
فقال الورد: وهذا مما يؤيد كلامي، ويرفع في الفخر مقامي، كم بلغت بحضرة المخدوم مقصودي، ولم يزل إلى منهل العذب ورودي (*).
وصفوة القول: إن فن المناظرات فن نثري جميل قائم بذاته جدير بأن يُبعث من جديد بعد أن ران عليه شيء من الإهمال، وقد حصل ذلك عبر التقنيات الحديثة التي أعادت له عافيته وألقه ونضارته وأنصفته بعد أن جار عليه الزمن.