نذير الكاتب / خاص تركيا بالعربي
كثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن سد أليسو التركي صعوداً ونزولاً, وعبارات الشجب والاستنكار والتهديد والوعيد ملأت صفحات التواصل الاجتماعي!
لستُ هنا بموقع المُصلح او المدافع عن جهة معينة بقدر المحاولة على تسليط الضوء على امرٍ غاية في الخطورة يَمسّ حياة العراقيين وربما يؤدي الى توتير العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين الجارتين العراق وتركيا.
المثير ان اغلب الذين تداولوا موضوع المياه وسد اليسو تحديداً تحدثُوا بأسلوب سوداوي تصعيدي من منطلق المؤامرة والشكّ, دون التحليل والتمحيص الواقعي والعلمي الهادف للتهدئة وترطيب الأجواء بعيدة عن الترويع المجتمعي وتوتير العلاقات بين البلدين.
على العموم غالبا ما تسحبنا ظواهر الأشياء الى التداعيات مباشرة دون المرور بتحليلها والأسباب المؤدية الى حدوثها.
فمثلاً لو راجعنا الحكومات التي تشكلت بعد 2003 لاكتشفنا مدى ارتباك وهشاشة النظام السياسي الذي بُني عليه تلكَ الحكومات في تشكيلها وادارتِها للدولة من منطلقات جهوية وفئوية ضيّقة, حيث بقيت تلك الحكومات اسيرة لتداعيات الماضي بمفاهيم حزبية ضيقة همّشت الهوية الوطنية ومزّقت النسيج المُجتمعي بسبب اعتمادِها أدوات الدين والطائفة والعشيرة والقومية لاستمالة مشاعر طبقات بعينها من جماهير الشعب للبقاء في السلطة باي ثمن ولاطول فترة ممكنة. ومن هنا بدأت مشاكل الشعب العراقي بالتفاقم, حيث دارت البَوصلة من العمل الجاد الى العمل الجِهوي والوَهمي. فعلى سبيل المثال وبمراجعة سريعة للتاريخ القريب لو قارنا ما قدّمته الحكومات المتعاقبة في مجال الموارد المائِية والذي هو موضوع بحثنا اليوم ما قبل وما بعد 2003 للاحظنا ان اعداد السدود والخزانات قبل 2003 والتي اغلبها أنجزت في ظروف حروب وحصار اقتصادي بلغت على الاقل 50 سد بالإضافة الى اكثر من 2400 ناظم للمشاريع الاِروائيّة موزّعة بين المحافظات العراقية كافّة, أمّا عدد السدود والخزانات التي أنجِزت بعد 2003 نجدها تساوي صفراً!
– وهذا مؤشر بسيط يثبت ان التصريحات النارية التي اطلقَتها بعض الشخصيات السياسية في العراق هي محاولة لتأجيج الشارع العراقي ضد الحكومة العراقية الحالية أولاً وضد حكومة الجارة تركيا ثانياً بل هي حق يُراد منها باطل!
لا شك ان هنالك ازمة مياه حادة وحقيقيّة وخطيرة للغاية تؤرّق العراقيين جميعا, لانها تمسّ حياة المواطن بشكل مباشر.
لكن من الواضح انّ جذور هذه الازمة ليست وليدة اليوم او الامس القريب فقد سبق ان حذرت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا في دراسة لها من تناقص المياه العذبة بشكل ملحوظ في 19 منطقة حارة حول العالم ومن بينها العراق, الا ان الحكومات العراقية المتعاقبة بعد 2003 لم تأخذ هذه التحذيرات بعين الاعتبار وبالتالي جعلها أولوية والقيام ببناء سدود وخزانات لتوفير مياه الشرب والري للمواطنين وقت الازمات, وبالأخص خلال فترتي حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بين 2006 الى 2014 حيث كانت الظروف ملائمة ومستقرة نسبيا مع وجود ميزانيات جيدة تتعدى المئة مليار دولار سنويا, وكانت كافية لتنفيذ هكذا مشاريع استراتيجية.
ولمعرفة حقيقة هذه الازمة علينا تناول المواقف الرسمية بين البلدين والرجوع الى التصريحات واللقاءات الرسمية بينهما بخصوص ازمة المياه. حيث تناول الجانبان هذا الموضوع مؤخرا عند زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش اوغلو الى بغداد ولقائِه مع نظيره العراقي إبراهيم الجعفري يوم الاحد المصادف 12 كانون الثاني 2018, حيث نقل بيان للخارجية العراقية عن الجعفري بعد لقائه مع الوفد الزائر قوله: ’’العراق حريص على إقامة أفضل العلاقات بين بغداد وأنقرة، ونبذل الجُهُود الدبلوماسيّة لتجاوز التحديات التي تواجه المنطقة والتعاون في المجال الاقتصادي ورفع حجم الاستثمارات بين البلدين, ونشيد بقرار الحكومة التركية تجميد العمل بسدّ أليسو حتى يونيو (حزيران) المقبل.‘‘
بدوره قال الوزير التركي بعد لقائه مع نظيره العراقي: “أوفينا بوعدنا للعراق وتفاعلنا مع طلبه فقررنا تجميد العمل بسدّ أليسو حتى يونيو (حزيران) وسنزيد حجم الإطلاقات المائيَّة من 60 متراً مكعباً في الثانية إلى 90، ولن نـُقدِم على أي إجراء يضِر بمصلحة العراق، وسنعمل على زيادة عدد الشركات التركيَّة العاملة في العراق، ونتطلع لاجتماع المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجيّ بين البلدين وتفعيل العمل والتعاون في مجال الطاقة والزراعة والثروة الحيوانية، فضلاً عن التعاون في مجال ضبط الحدُود وزيادة المنافذ الحدودية بين البلدين”.
من جانب اخر قال وزير الموارد المائية العراقي السيد حسن الجنابي في مؤتمر صحفي في 2 حزيران الجاري ان ’’مناسيب المياه في اغلب مناطق العراق انخفضت بسبب شحة طبيعية لمصادر المياه لان الغطاء الثلجي في هذه السنة لم يتحقق والامطار أيضا لم تسقط بكميات كافية.‘‘
وأضاف أن: ’’انخفاض المناسيب ليس له علاقة بحسن العلاقة مع دول الجوار لان التعاون موجود بيننا وقنوات الاتصال مفتوحة بين البلدين.‘‘
وفي سياق متصل قلل وزير الموارد المائية العراقي في تصريح صحفي له ببغداد يوم 2 حزيران 2018 من مخاوف ازمة مياه في بلاده مع بدء تركيا بملء سد اليسو من مياه دجلة.
وقال: ان بلاده قادرة رغم تقليص إيراداتها من نهر دجلة من الجارة تركيا على تامين مياه الشرب في عموم البلاد فضلا عن تامين مياه الري لنحو 600 الف دونم من المحاصيل الصيفية ونحو مليون دونم من البساتين.
ولفت انه سيقوم في وقت لاحق من شهر حزيران الجاري بزيارة كل من تركيا وايران حيث منابع دجلة والفرات لبحث ملفات المياه معهما مشيرا في الوقت ذاته بان العلاقات المائية مع دول الجوار وخصوصا مع تركيا في افضل صورها حاليا.
يذكر ان البلدان قد وقعا في كانون الأول 2014 مذكرة تفاهم في مجال المياه, خلال اجتماع مجلس الأعمال التركي العراقي، بحضور رئيسي وزراء الجانبين حيدر العبادي وأحمد داود وأوغلو في تركيا. وتضّمنت مذكرة التفاهم 12 مادة، أكدت على أهمية التعاون في مجال إدارة الموارد المائية لنهري دجلة والفرات وتحديد الحصة المائية لكل دولة في مياه النهرين، والتأكيد على أهمية تقييم الموارد المائية وزيادة استخدام المياه في المجالات الزراعية والصناعية وما يتعلق بمياه الشرب.
وفي يوم 12 اذار 2017 أيضا أشار الجنابي، إنه اتفق مع نظيره التركي فيصل أر أوغلو حينها على تفعيل مذكرة التفاهم الموقعة بين البلدين في 2014 بشأن المياه.
وأوضح أنه ’’تم الاتفاق على تشكيل فريق فني لمتابعة المشاريع المشتركة المقترحة، وحصلنا على تطمينات وافية بطريقة إملاء سد اليسو التركي دون إلحاق أضرار بالعراق”.
والجدير بالذكر ان هنالك نحو 44 نهرا ورافدا تصب في جنوب ووسط العراق تنبع جميعها من إيران وتعزز إيرادات نهر دجلة، ولكن على مدى السنوات الخمس الماضية دأبت إيران على تقليص كميات المياه عبر تلك الأنهار والروافد وقطعت المياه عن اغلبها مما تسبب بزيادة مساحات الأراضي المتصحرة في جنوبي العراق. حيث قال الخبير الزراعي العراقي عادل مختار لوسائل الاعلام في وقت سابق انه: ’’قامت إيران بقطع 38 رافداً مائيا كانت تصل للعراق وأدخلتها لبلدها.‘‘
وفي جميع الأحوال ومهما كانت الظروف لا خير يرجى من التصعيد, فبالنتيجة المتضرر الوحيد سيكون هو المواطن البسيط, فالمسالة خطيرة وحساسة للغاية ولا حلّ غير التفاهم ثم التفاهم ثم المزيد من المحادثات البناءة بين جميع الأطراف!
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=56621