لا أحد يستطيع أن يُنكر أن حكومة الرئيس التركي “طيب رجب أردوغان” دعَّمت مسلسل “قيامة أرطغرل”، ممّا يعني أن أردوغان بات يُدرك أن الفن أنجح عملية للحفر المعرفي وثقب الذاكرة، وأنَّ الدراما اليوم هي القوة الناعمة القادرة على تغيير القناعات أو بنائها من جديد، وهي القوة التي وصفها الزعيم الهندي “جواهر لال نهرو” بأنّها “القوة المؤهلة لاستبدال الثقافات بصمت”.
فلم تعدْ تقتصر حروب قرن الواحد والعشرين على الحرب الدَّمويَّة، بقدر ما تعدَّتها إلـى الحرب الإعلاميّة، وهو ما يجعل مقولة الفيلسوف الفرنسي “روجيس دوبري” بأنّ “الفيديولوجيا” بمعنى السينما، انتصرت على “الأيديولوجيا” بمعنى الأفكار.
وبعيدًا عمَّن انتصر على من؟ ولأننا في عصر الصورة الناطقة، صار على “الأيديولوجيا” اليوم أن تركِّز على “الفيديولوجيا”؛ إذْ من أسرار التطوُّر مواكبة العصر.
وفي خضمِّ هذه السياسة الأردوغانية هناك أطرافٌ لم يعجبهم الحال وتخوَّفوا من المآل، فَحَمَتْ أنوفهم كونه أقحم أصبعه في الإعلام التركي، وقامت قيامتهم إذْ تجلَّى لهم دعم الحكومة للمسلسلِ من لمَّا تمَّ عرضُه على القناةِ التركية الرسمية “TRT”، ناهيكَ عن زيارة “أردوغان” ورئيس الوزراء السابق “داوود أغلو” لموقع التصوير.
وفي الوقت الذي احتقن العَلمانيون غضبًا على سياساته العَلَنيَّة، مشى أردوغان بخطى السلاطين وصحبَ معه ثلة من ممثلي “قيامة أرطغرل” أثناء زيارته للكويت، في سابقة لم تحدث من قبل أنْ اصطحب رئيس دولة أبطال مسلسل ما في زيارة رسمية لدولة أخرى!
إن كانت سياسة “حريم السلطان” تشويه صورة الخلافة الإسلامية، فمن الطبيعي أن تكون الإسلامية الأردوغانية ندًّا للعَلمانية الأتاتوركيَّة، ناهيكَ أنَّ “قيامة أرطغرل” أنتج كردِّ فعل لـ “حريم السلطان”.
فقد كان بحقٍ درامَا تُرفع لها القبعة احترامًا، كونها وجدت صدًى في حدود تركيا وخارجها، ولا أدلَّ من تأثير “قِيَامَةَ أُرْطُغْرُلْ” على الأتراك مثل تصدِّيهم للانقلاب الفاشل على أردوغان إذْ نزل ملايين الأتراك للشوارع على أنغام موسيقى ذلك المسلسل.
بل لقد استقبل ملك البحرين “أردوغان” بالنشيد التركي، وزاد عليه تلك المقطوعة الموسيقية التي تصاحب حلقات “قِيَامَةَ أُرْطُغْرُلْ”. وبان في الاستفتاء الأخير في تركيا أن الأتراك صاروا يحتفلون بالنصر على أنغامه كذلك.. لأجل هذا تكون الدراما وإلاَّ فلا.
وفـي ظلِّ هذه البروتوكولات الأردوغانية صار من الطبيعي أن يكسب المسلسل زخمًا إعلاميًّا يترك أفواه العالَم مفتوحة من الدهشة، فليس أمرًا هينًا أن يشاهد رئيس دولة مسلسلاً ما، كيفَ إن شاهده ودعى لمشاهدته؟! وصار من الطبيعي أيضًا أن يخلق نجاح المسلسل حسَّادًا ونقَّادًا له، ويُسيل كلَّ هذا الحبر للإنقاص من شأنه ومن شأن أردوغان، فوجدوها فرصة سانحة لقلبِ صفحات التاريخ كي يُلصقوا به شبيهًا خبيثًا، لعلَّ هذا الأمر هو ما حدَا بهم إلى إشاعة أنَّ أردوغان يمارس “الغُوبْلُزِيَّة السينمائية”؛ نسبة إلى “يوزيف غوبلز” وزير الدعاية السياسية لـ “أدولف هتلر” الذي زيَّف الحقائق وقولب الأفكار لتصدقها الشعوب.
ولكن هذا النقد منهم نقدٌ عليهم، إذْ لا عيبَ أن تؤيِّد الحكومة عملاً فنيًّا، بل لا عيبَ حتى لو كانت وراء إنتاجه، بلْ هذه البادرة حسنة من حسناتها؛ لأن هذا يدلُّ بشكل لا شكَّ فيه أنَّها حكومة ناضجة لتراعي إعلام بلدها، وأنها ليست من مثيلات الحكومات التي لا شغل يشغلها غير نهب ثروات البلد! ثمَّ إن الناقدين لأردوغان أنانيون للنخاع، وإلاَّ فكيفَ يلومونه على دعمه لـ “قيامة أرطغرل”، بينما لا ينبسون ببنت شفة عن الكاتبة العَلمانية التي ألَّفت “حريم السلطان” ورامت من خلاله إلـى فصل الدين عن الدولة، بل فصل كل شيء عن كل شيء، وشوَّهت فيه صورة “الغازي عثمان” حينما أظهرته للعالَم أنه زير نساء، وقزَّمت بطولاته في اللهو والصيد غاضَّة الطرف عن جهاده.
وهل يمكن لزيريٍّ أن يؤسِّس “الدولة العثمانية” التي دامت 644 سنة؛ حيث تأسست سنة 699هـ، وسقطت سنة 1343هـ؟ وهل يمكن لميَّالٍ للهو والعربدة أن يؤسِّس “الدولة العثمانية” وهو ابن 43 عامًا، حيثُ وُلد “عثمان” عام 656 هـ، بينما تأسست “الدولة العثمانية” فـي 699 هـ؟ إنه لإنجاز يُذكر ولا يُنكر أن يؤسس رجلٌ بعمر 43 عامًا دولة تعيشُ ستة قرون ونصف القرن، لكن كاتبة “حريم السلطان” لا يعنيها إنجازاته الحقيقية بقدر ما يعنيها زيريته التشويهية!
علمًا أن “أرطغرل” قد خلّف أولادًا نجباء أربطهم جأشا وأقواهم شكيمةً السلطان “عثمان” وكان أصغر أولاده، ومن عجائب الدهر ـ والدهر لا تخلو عجائبه ـ أنَّ مولد “عثمان” وهو مؤسس “الدولة العثمانية” كان في العام نفسه الذي قُتل فيه الخليفة العباسي “الـمستعصم بالله” على يد “هولاكو” إمبراطور المغول العظيم، وسقطت فيه بغداد عاصمة الخلافة العباسية على يد المغول عام 656هـ وانتقالها إلى مصر.
وانتحل السلطان “عثمان” مثل أبيه لقب “الغازي” فصار يُعرف بـ “عثمان الغازي”، عملا بحديث: “مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ”، وأصبح اتخاذ هذا اللقب سُنّة في نسل الخلفاء العثمانيين من بعده. فما لحـريم سُلطانهم لـم يعرضْ هذا؟
ثمَّ إن كانت سياسة “حريم السلطان” تشويه صورة الخلافة الإسلامية، فمن الطبيعي أن تكون الإسلامية الأردوغانية ندًّا للعَلمانية الأتاتوركيَّة، ناهيكَ أنَّ “قيامة أرطغرل” أنتج كردِّ فعل لـ “حريم السلطان”.
فما بال “قيامة أرطغرل” يُقيم قيامتهم، بينما لم يحرِّك فيهم “حريم السلطان” شَعرة من شعرات غضبهم، أمَّا أنَّنا نعيشُ بمنطق: “تبكِ أمكَ، ولا تبكِ أمِّي”؟ ومنهم من بلغ به السفه مبلغًا، وأوصله الـخوف من كاريزما “أردوغان” إلى القول بأنَّ أوجه الشبه المورفولوجي بين “أرطغرل” وبين “أردوغان” وإن كانت متقاربة جدًّا، فإنها لن تتشابه في الواقع.
وأن هذه القيامة الأرطغرلية لن تكون لها نسخة أردوغانية، وكأن التاريخ يُمكن أن يعيد نفسه مع سكان الأرض جميعًا إلاَّ مع أردوغان، ناسين أنَّ مشروع بعث الدولة العُثمانية سلكَ شَوْطَهُ الطويل، وأنَّ أردوغان ليس طفلاً يرضع في أصابعه، وإنما هو سليل أجداد طِينَ معدنهم من طينة الأشراف، تهون رقابهم أمام مآربهم. وأنَّ الحرب على الأردوغانية لن يبرد وطيسها مثلما لـم تهدأ لهم هادئة إبَّان قيام الدولة العثمانية، وسيُقال فيه ما لـم يَقلْ صاحبُ “التلبيس” في إبليس، ولكن ما أكثر الأقوال وما أقل الصدق!
محمد خمفوسي / مدونات الجزيرة
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=91847