عكست تجربة حزب العدالة والتنمية منذ أن تولى السلطة في تركيا عام 2002، نموذجا فريدا من النجاح المحفوف بالمخاطر والأزمات، فمن دولة مغروسة في قاع الديون والتبعية السياسية والانهيار الاقتصادي تحولت في 16 عاما إلى دولة تزاحم دول العشرين الكبار في العالم اقتصاديا، بل انتقلت من دولة مهمشة سياسيا إلى لاعب إقليمي في كثير من الملفات بالمنطقة، حتى أضحت التجربة التركية ملهما لكثير من الشعوب العربية التائقة للشعور بإحساسها الوجودي ودورها الفعال بين دول العالم سياسيا واقتصاديا.
لكن مع كل مظاهر الازدهار التي ساهم في صناعتها حزب العدالة والتنمية بقيادة ثعلب السياسة رجب طيب أردوغان، لم يلتفت أحد للمخاض العسير الذي ولدت منه هذه التجربة الناجحة، وغمار التحدي الذي خاضه أردوغان على مدار 17عاما من حكمه لتركيا ليصل إلى ما وصل إليه. ليثبت لنا أن السياسة عمل احترافي لا مكان فيه للسذج البسطاء، والهواه من الأحزاب الشكلية التي تثير ضجيج خالي من أي أثر على أرض الواقع.
في كتاب عن سنوات حكم أردوغان من 2002 إلى 2016 للكاتب التركي “مُحمر فاريك” استعرض فيه الكاتب مسار تجربة حكم العدالة والتنمية، ويرصد العقبات التي واجهها أردوغان لعرقلة مسيرة حكمه وعمله السياسي، كأول حزب ذي خلفية إسلامية محافظة يتولى حكم تركيا، وينجح في أول انتخابات تشريعية يدخلها.
حظر سياسي
لم يستطع أردوغان دخول البرلمان، وتولى رئاسة الوزراء بعد نجاح حزبه في الانتخابات نظراً لأنه مُنع من تولّي مناصب سياسية في الدولة من قبل المحكمة الدستورية، نتيجة قراءته عام 1997، بصفته رئيس بلدية إسطنبول، شعراً وُصف بأنه تحدٍ لعلمانية الدولة. لذا تولى رئاسة الوزراء رفيق دربه، عبدالله غل. ولا يخفى على أحد أن جميع القرارات والتحركات كانت تسير بتنسيق مع أردوغان.
وعقب انتهاء الحظر السياسي على أردوغان عام 2003، اتجه حزب العدالة والتنمية إلى دفع مروان غل، النائب عن مدينة سيرت التي لم تقبل نتائج انتخاباتها من قبل الهيئة العليا للانتخابات التي تلقت اعتراضاً من حزب العدالة والتنمية على عملية الفرز للأصوات في المدينة، لتقديم استقالته في 31 كانون الثاني/يناير 2003، ورشح أردوغان نفسه مرشحاً عن مدينة سيرت. وفي 9 آذار/مارس 2003، أُجريت الانتخابات من جديد في سيرت، وفاز أردوغان مع اثنين من مرشحي الحزب، لتبدأ بذلك سنوات حكم أردوغان فعلياً.
في 1 أيار/مايو 2003، حدث زلزال في مدينة بينغول، وكان بمثابة الآفة الطبيعية الأولى التي تشكل تحدياً لحزب العدالة والتنمية، غير أن الحزب استطاع تفادي نتائجها في وقتٍ قصير، من خلال تسريع تحريك طواقم الإنقاذ.
وبينما كانت حكومة العدالة والتنمية تتحضر للتفاوض بجدية في مسألة العضوية بالاتحاد الأوروبي الذي كان بمثابة هدف رئيسي لأردوغان، ذكرت صحيفة “جمهورية” اليسارية المعارضة، في 24 أيار/مايو 2003، أن الجيش منزعج من حزب العدالة والتنمية. وكان الحدث بمثابة المحاولة التي ترمي إلى إحداث وقيعة بينه وبين الجيش. ورداً على ذلك، صرّح أردوغان بأن “هذه الأخبار كاذبة، وتهدف إلى إعاقة التقدم الحقوقي والاقتصادي الذي تسعى حكومته إلى تحقيقه”. لكن تقارب حكومة حزب العدالة والتنمية من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لعب دوراً في دفع الجيش لتبني مواقف معتدلة مع حكومة حزب العدالة والتنمية، بالرغم من كونها حكومة محافظة أو بالأحرى إسلامية.
في نهاية عام 2005 وبداية عام 2006، وتحديداً في 28 آذار/مارس 2006، كانت حكومة حزب العدالة والتنمية أمام تحدٍ عميقٍ في مواجهة حزب العمال الكردستاني في تركيا، حيث تحوّلت مدينة دياربكر ذات الكثافة الكردية، إلى ما أشبه ما يكون بساحة الحرب، بعد دفن أربعة من مقاتلي حزب العمال الكردستاني. وفي خطابات أردوغان المتتالية آنذاك، تم التأكيد على مسعى الحكومة التركية لإيجاد حلٍ جذري “للقضية الكردية”، وكان من اللافت للانتباه إشارة أردوغان، في مدينة دياربكر، في نهاية عام 2005، إلى وجود “قضية كردية” في تركيا، لا بد من حلّها، وكان تنديد عدد من المواطنين بسقوط عدد من الجنود الأتراك في الحرب ضد الإرهاب، أدى دوراً في دفع الحكومة التركية نحو الانفتاح على “المشكلة الكردية” في تركيا، لحلها بشكلٍ جذري، وهو ما ستنعكس نتائجه في آيار/مايو 2013، حيث ستتم “عملية سلام” بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني”.
وفي 14 نيسان/أبريل 2007، كان أردوغان أمام تحدٍ جديدٍ ظهر عبر تظاهرات عارمة اندلعت في ميدان “تاندوغان” في أنقرة، نددت بالخطر الذي يشوب نظام الحكم الجمهوري في تركيا، وقد زاد زخم هذه التظاهرات بالتزامن مع انتهاء المدة الرئاسية لأحمد نجدت سازار، حيث نُشر ادعاء محاولة حزب العدالة والتنمية الاستئثار بالحكم. وما زاد من قلق حزب العدالة هو نشر رئاسة الأركان التركية، في 30 نيسان/أبريل 2007، توضيحاً إلكترونياً يُعبّر فيه الجيش عن امتعاضه من “انتشار بعض مظاهر الرجعية”.
ومن أجل تجاوز هذه الأزمات، والتقليل من حجم آثارها المُحتملة، اقترح حزب العدالة والتنمية انتخاب الرئيس من قبل الشعب بشكل مباشر، عارضاً الأمر على الاستفتاء الشعبي في 21 تشرين الأول/أكتوبر 2008. وكانت نتيجة الاستفتاء 69.1% نسبة القبول. وبذلك تجاوز الحزب هذا التحدي.
انقلاب محتمل
وفي 23 كانون الثاني/يناير 2008، انطلقت قضية أطلق عليها اسم “أرغاناكون”. ظهرت هذه القضية عبر مداهمة منزل في حي “العمرانية” في إسطنبول، حيث وُجد فيه بعض القنابل اليدوية، وهناك بدأت عملية التحقيق، حتى وصلت إلى القضاء ملفات تُثبت تخطيط الجيش لانقلاب على أردوغان عام 2009.
وكانت عصابة “أرغاناكون” تعمل عبر منظمات مجتمع مدني ووسائل إعلام مرتبطة ببعض قادة الجيش. وباستناد أردوغان إلى الشرطة والقضاء، استطاع قضم محاولة جديدة للانقلاب على حكومته.
وبعد أن هدأت الأمور قليلا أطلقت الشرطة التركية، في 26 شباط/فبراير 2010، حملة أطلق عليها فيما بعد اسم “المطرقة”، استهدفت بعض قادة الجيش الذين اتُهموا بالتخطيط لمحاولة الانقلاب ضد حزب العدالة والتنمية، من خلال افتعال نزاع داخلي بين المحافظين والعلمانيين، وافتعال مناوشات مع اليونان.
وبحلول الانتخابات البرلمانية في 12 حزيران/يونيو 2011 فاز حزب العدالة بنسبة 49%، والتي شهدت نسبة مشاركة بلغت 87.16% من عموم أصحاب الحق في التصويت، وبذلك حظي أردوغان بلقب “ثاني قائد أكثر حكماً لتركيا بعد أتاتورك”.
وبعد هذا النجاح الهائل بدأ أردوغان عقد مشاورات بين الاستخبارات التركية وحزب العمال الكردستاني (تنظيم بي كي كي)، وقد كانت جماعة الداعية فتح الله غولن التي كانت في حينها متغلغة في أجهزة الدولة، رافضة لهذه المشاورات. ولوقف المشاورات المذكورة، عمدت الجماعة، بالتعاون مع جهازي الداخلية والقضاء، إلى محاولة إلقاء القبض على رئيس جهاز الاستخبارات القومي، هكان فيدان، الذي يلقب “باليد اليمنى لأردوغان”، وتزامنت محاولة اعتقاله مع إعداد أردوغان لإجراء عملية جراحية في جهازه الهضمي، وذلك يوم 7 شباط/فبراير 2012.
تواصل فيدان في البداية، مع رئيس الجمهورية حينذاك، عبد الله غل، الذي قال له “اذهب معهم”، إلا أنه لم يصغِ لذلك القول، وتواصل مع رئيس الوزراء أردوغان، قبل دخول الأخير العملية الجراحية بساعات قليلة، فقال له أردوغان “إياك أن تسلّم نفسك”. وكانت هذه الحادثة الشعرة التي قصمت ظهر البعير بين جماعة غولن وحزب العدالة والتنمية. ولتحصين موقع رئيس جهاز الاستخبارات، قدم الحزب، في 12 شباط/فبراير 2012، إلى البرلمان، مسودة قانون تقضي بتحصين البيروقراطيين الذين تم توكيلهم بمهام من قبل رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية.
وعلى الرغم من العراقيل التي وضعتها الدولة العميقة، إلا أن الحكومة التركية نجحت في إتمام اتفاق حول “عملية السلام” أو “عملية الحل”، مع حزب العمال الكردستاني، والتي استمرت حتى يونيو/حزيران 2015، حيث نكثها “الكردستاني”.
في 11 أيار / مايو 2013 تعرضت مدينة هاتاي التركية الحدودية لانفجارين اتهمت على إثرهم الحكومة التركية الحكومة السورية بالتخطيط لهما وتنفيذهما.
ولم يلبث أن ينقضي الحديث عن هذين الانفجارين، حتى انطلقت، في 27 أيار/مايو 2013، احتجاجات حديقة “غيزي بارك”، التي استمرت حتى 12 حزيران/يونيو، وكلّفت تركيا خسائر اقتصادية كبيرة. طالب المحتجون في هذه التظاهرات التي صُوّرت على أنها امتداد لثورات “الربيع العربي”، بإجراء اصلاحات جذرية. ولامتصاصها، عمدت الحكومة التركية إلى إجراء عدد من اإاصلاحات التي شملت الالتقاء بهيئة تمثل المتظاهرين، وإلغاء قلع الأشجار التي خرج المتظاهرون من أجلها.
هذا غيض من فيض لما مرّ به أردوغان طوال مسيرة حكمه ،ومع كل هذه التحديات الكبيرة، استطاع أن يسبح وسط أمواجها العالية بدهاء سياسي ومرونة حتى استطاع أن يطوع كل الإمكانيات نحو تحقيق هدفه، وبالرغم من أن هناك عقبات أخرى مثل انقلاب 15 تموز الفاشل، والحرب الأمريكية على الاقتصاد والتصادم مع روسيا والخلافات العديدة في كثير من الملفات بالمنطقة وتأمر دول الخليج عليه، التي تابعها الجميع نظرا لدور تركيا الإقليمي الذي لفت أنظار العالم في الفترة الأخيرة، إلا أن النهاية دائما ما تكون في صالح أردوغان وتقوى من مكانته السياسية والإقليمية، والفضل يرجع إلى الوعي الشعبي الذي أفرزته التجربة التركية، وذكاء حزب العدالة والتنمية وتعاطيه مع مستجدات الواقع السياسي بعقل وحكمة، وبظهير شعبي غاية في الحب والتفاني في سبيل وحدة وطنه، لذلك لا عجب بعد كل هذه العقبات التي واجهت أردوغان نسمعه يقول وهو يدشن السفينة “أفق” أول سفينة استخبارية تركية” من لا يفرض نفسه في الميدان لن يجد له مكاناً على الطاولة.”
الكاتب: علي الصاوي – ترك برس
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=88552