أثناء عملها في لجنة التحقيق الأممية حول سورية، أكدت المحققة الدولية كارلا ديل بونتي، لـ”العربي الجديد” في جنيف، أن “العدالة يجب أن تتحقق في سورية، وخصوصاً للضحايا”، مضيفة أن “ما يحبط هو غياب القرار السياسي، فلم أرَ مثل هذه الجرائم التي في سورية ولا حتى في رواندا ويوغسلافيا السابقة”. اليوم تعود ديل بونتي لتؤكد مجدداً ما طرحته في مارس/آذار من العام الماضي، من خلال كتاب حديث صدر في برلين عن غياب العدالة في سورية.
بعد خمسة أعوام من التحقيق والعمل في لجنة الأمم المتحدة المستقلة للتحقيق بجرائم الحرب في سورية، وجدت المحامية والمدعية السويسرية، كارلا ديل بونتي، نفسها مضطرة للاستقالة من منصبها في سبتمبر/أيلول 2017. وتعلل استقالتها اليوم بـ”غياب إرادة سياسة دولية لمواجهة جرائم الحرب في سورية”. أخيراً، أصدرت ديل بونتي كتاباً بعنوان “الضحايا… إخفاق الأمم المتحدة والسياسة الدولية في سورية”، احتوى على عدد كبير من الوثائق والأدلة التي تطاول مجرمي الحرب في سورية.
ديل بونتي، التي وضعت خلف القضبان مجرمين ومهربي سلاح ورجال عصابات أقوياء، من رواندا إلى يوغسلافيا السابقة، وترأست محاكمة الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش، تحدثت من برلين لصحيفة “إنفرماسيون” الدنماركية عن عملها في جمع الأدلة حول جرائم الحرب في سورية، وما شاب هذا العمل من تحديات وخصوصاً “غياب الإرادة السياسية الدولية”.
وعلى الرغم من انسحابها من لجنة التحقيق، لا تزال ترى أن عمل لجنة التحقيق الدولية في جرائم الحرب “مهم للغاية في سبيل تقديم التقارير وجمع الأدلة حول انتهاكات حقوق الإنسان، لإنشاء محكمة جرائم الحرب”. لكنها تعتبر أيضاً أنه “على الرغم من موافقة الأمم المتحدة على تقديمنا (في لجنة التحقيق) قائمة حول الجرائم، وهي مهمة كانت سهلة، أدركت سريعاً أنه لن يكون هناك إنشاء للمحكمة، وناشدت مجلس الأمن الدولي وحاولت إقناعهم، وفعلت كل ما بوسعي القيام به، لكن ذلك لم يكن ممكناً”.
بعد خمسة أعوام من العمل، لم يستطع فريقها تقديم المجرمين إلى محكمة جرائم الحرب في لاهاي “فسورية لم توقّع على اتفاقية المحكمة، ومجلس الأمن لم يقم بتحويل الجرائم إلى المحكمة، بفعل فيتو روسي منع ملاحقة نظام بشار الأسد”، وهو ما أشعرها بـ”العجز” حينه، بحسب وصفها لصحيفة “إنفرماسيون”. تاريخ ديل بونتي مع متابعة الجرائم ليس قصيراً، وعلى الرغم من انسحابها من لجنة التحقيق، لا تزال متفائلة بأن “الضحايا سيحصلون يوماً على العدالة”. وقد تعرضت هذه السيدة خلال تاريخها كمدعية للكثير من الملاحقات والتهديدات، وصلت في العام 1989 إلى محاولة اغتيال حين كشفت مع القاضي الإيطالي جيوفاني فالكوني عن علاقة المافيا بغسل الأموال السويسرية، وعاشت 20 سنة في حماية الأمن. وانضمت في 2012 إلى لجنة التحقيق الخاصة بجرائم الحرب في سورية.
في كتابها حول ضحايا الحرب السورية، بالألمانية، والذي سيصدر بنسختيه الإنكليزية والإيطالية خلال الخريف المقبل، تعرض ديل بونتي وثائق كثيرة عن الجرائم التي ارتُكبت في سورية “وهي أدلة ووثائق خذلتها الأمم المتحدة”. وتعتبر ديل بونتي أن الوثائق والأدلة التي جُمعت “كانت كافية للمجتمع الدولي، لكن شعوري بأنه لم تكن هناك فرصة حقيقية للتصرف هو ما دفعني للمغادرة”. أما عن أسباب إصدار كتابها حول سورية، فتقول المحققة السابقة إنه “ناجم عن احباطاتي الكبيرة، وعلى الأقل لأجل توثيق ما جرى. فعمل ممتد لسنوات لم يحقق العدالة للضحايا السوريين، وهو أمر غير مقبول إطلاقاً، فلجنتنا قدّمت أدلة للمجتمع الدولي، لكن أحداً لم يتصرف”.
تتحدث ديل بونتي عن “جرائم مهولة بأدلة تصل إلى رئيس النظام السوري بشار الأسد، ارتكبها بحق شعبه، من خلال القصف والتعذيب، ووسائل كثيرة موثقة، في شكل صور ووثائق وشهادات وأشرطة فيديو، وهي جاهزة للاستخدام في أية محكمة مقبلة”.
اعتمدت اللجنة، وفقاً لديل بونتي، على البحث في جرائم الحرب من داخل سورية، وتوسع عملها ليشمل دولاً كتركيا والعراق ولبنان والأردن، و”قمنا بالتحقيق والاستماع لشهادات مع الزملاء وجمعنا الأدلة الموثقة”. وتشير إلى شمول كتابها الكثير من الأدلة، ومنها قضية إعدام طفل في الثانية عشرة من عمره وبالوثائق “قُدّمت مع كثير من مثيلاتها من الجرائم إلى مجلس الأمن الدولي، لكنه بقي بلا عمل”.
لكارلا ديل بونتي رأيها الحقوقي والقانوني في الأمم المتحدة، باعتبارها مؤسسة تملك مجلس أمن “عاجزاً وفاشلاً يحتاج إلى إعادة تنظيم. فهذه مأساة (تراجيديا) لسورية والأمم المتحدة، وهو عاجز عن وضع حد للمأساة، بسبب حق النقض (الفيتو)”، مضيفة: “على سبيل المثال، نصف أعضاء منظمة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR هم من مرتكبي الجرائم ضد شعوبهم”. وتتابع: “لقد اعتقدت بأنه سيكون وضعاً أفضل بعد الملاحقات القضائية عن الجرائم التي تمت في يوغسلافيا ورواندا، لكن عملي في لجنة سورية كشف أنه لم يتم ذلك”، بحسب قول المدعية التي انتُقدت كثيراً بسبب صراحتها وجرأتها على تسمية الأشياء كما هي.
في مرحلة ما، كتبت ديل بونتي في مذكراتها “السيدة المدعية” بأنها دائماً كانت مدفوعة “للعمل من أجل تحقيق العدالة بالتعاون مع الناس، بمن فيهم هؤلاء الذين لم يكونوا مستعدين للتعاون، وليكن الثمن ما يكون”. وفي إجابتها على سؤال “إنفرماسيون”، حول ما يحفزها للاستمرار في الكفاح من أجل ضحايا الحروب، تقول ديل بونتي باختصار “حين تلتقي بالضحايا وتشعر وتلحظ معاناتهم القوية، وعدم استسلامهم، كل دافعي هو أن أحصل على الأدلة لتحقيق العدالة”.
وبمناسبة الحديث عن تحقيق العدالة للسوريين، تشير “إنفرماسيون” إلى العلاقة الوثيقة بين وزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر وديل بونتي، ولقائهما في برلين مجدداً، حيث يُطلق فيشر موقفاً، قائلاً “من دون سلاح الأمور لن تجري” (أمور العدالة يقصد) وهو الذي دافع بقوة عن تدخّل بلده العسكري في حرب كوسوفو، حيث كانت ديل بونتي تعمل مدعية في جرائم الحرب أيضاً. اليوم يجد فيشر بأن “السلام في سورية، وتحقيق العدالة، يحتاج إلى قرار سياسي، والوقائع تقول إنه طالما أن روسيا تستخدم الفيتو ضد الملاحقة القضائية بحق السوريين المرتكبين لجرائم الحرب، فلن يحصل الضحايا على العدالة”.
ترى ديل بونتي هذا الموقف لصديقها فيشر “تعبيراً عن إحباط وتشاؤم واستسلام”، مضيفة: “انظروا كم أنتج الصراع في اليمن وأفريقيا من مآسي لاجئين، وفي الوقت نفسه تبدو الأمم المتحدة عاجزة”. لا تجد ديل بونتي تشاؤماً أو استسلاماً في انسحابها ولا في تأخر العدالة في سورية، فالقضايا التي بدأت تُرفع في عدد من الدول، في ألمانيا وإسبانيا وفرنسا والنمسا، ضد مجرمي الحرب في النظام السوري، تراها استمراراً لمحاولة تحقيق العدالة “لكن الأسد وأعضاء نظامه يجب أن يكونوا أمام المحكمة الدولية”.
وعن ذلك يقول أيضاً القاضي السابق في محكمة جرائم الحرب الخاصة بيوغسلافيا، فردريك هارفهوف، للصحيفة الدنماركية (إنفرماسيون) بأنه “من المحتمل جداً في وقت لاحق أن تتفق الولايات المتحدة وروسيا على مثل هذه المحاكمة، باتفاق ضمني يستثنيهما من مثل تلك الملاحقة على جرائمهما”. وهو موقف تتفق معه ديل بونتي، المؤمنة بأن العدالة في سورية “حتى لو تأخرت فهي آتية. روسيا تدعم اليوم الأسد، لكنني مؤمنة بأن ذلك سيتغير، هم يريدونه أن يستعيد سورية، سيبحثون عن السلام لأنهم لن يستطيعوا العيش في حرب دائمة، وحينها لن يجدوا مخرجاً سوى الموافقة على محكمة جرائم الحرب”.
تصر ديل بونتي على أنه “مع مرور الوقت لن أكون أكثر شباباً، وبما أني لم أرَ أفظع من الجرائم المرتكبة في سورية، ولا حتى في رواندا ويوغسلافيا، وغياب المجتمع الدولي، إلا أني مستعدة لأكون جزءاً من المحكمة التي ستنشأ لمتابعة جرائم الحرب في سورية، فأنا أعرف الأدلة والوثائق، وأعرف كم هو مهم للضحايا أن تكون شخصية عارفة بمعاناتهم جزءاً من تحقيق العدالة”.
المصدر: أورينت
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=59478