حين قت.ل ابنه الذي كان يحارب في صفوف المعارضة، واستحال العيش في سوريا بالنسبة لجمال سحلبجي، حزم هو ومن تبقوا من أفراد عائلته أمتعتهم وانضموا إلى مئات الآلاف الذين فروا إلى دول مجاورة.
كانت هناك مخيمات للنازحين بالفعل لكن سحلبجي الذي وصل في عام 2012 عزف عن الإقامة فيها. والآن وبعد إغلاق أكثر من نصف 22 مخيماً للسوريين تديرها الحكومة التركية، وعلى الرغم من عودة بعض المقيمين فيها إلى سوريا، فإن الأغلبية بقوا وانتقلوا إلى مساكن دائمة في أجزاء مختلفة من البلاد.
وعلى الرغم من التصريحات السياسية التي تفيد بعكس ذلك ودعم المانحين الدوليين، فإن تركيا تمهد الطريق في هدوء لدمج الكثيرين من نحو أربعة ملايين سوري يعيشون فيها، وهو أكبر عدد من اللاجئين السوريين الذين تدفقوا عبر حدود سوريا خلال الحرب المستمرة منذ ثماني سنوات.
لكن استيعاب ولو مجرد جزء من هذه الأعداد في المجتمع وقوة العمل، يمثل تحدياً كبيراً، خاصة في ظل تعثر الاقتصاد وارتفاع معدلات البطالة.
يعمل سحلبجي الآن حارساً في مدرسة ثانوية خاصة يعمل فيها ابنه أحمد أيضاً. تدرس ابنته للالتحاق بالجامعة، حيث تأمل في دراسة الهندسة المعمارية، بينما حصل ابن آخر له وأسرته على الجنسية التركية.
بعد سبع سنوات من فرارهم من مدينة حلب السورية، لا يعتزم أفراد عائلة سحلبجي العودة إلى ديارهم كما كانوا يتصورون في البداية، لكنهم يصنعون لأنفسهم جذوراً جديدة.
وقال أحمد: “نحنا هلأ متأملين أنو نعمل مستقبل لولادنا نزّلناهم بمدارس عم نصرف عليهم، أنو بركي بيدرسوا بيدخلوا عالجامعات بيطلعوا شغلة انشالله”.
وأضاف أحمد البالغ من العمر 31 عاماً: “الدولة بتشتغل للشعب هون، نحنا عنا بالعكس”.
وما زال معظم اللاجئين في تركيا مسجلين كلاجئين. وهناك قلة منهم غير مسجلة بينما حصل قطاع صغير قوامه 55 ألفاً على الأقل على الجنسية التركية.
ما وراء الأرقام
لكن وراء الأرقام هناك تحول أوسع على مستوى الدعم الذي يحصل عليه السوريون الذين وصل معظمهم حاملين ما خف وزنه، عندما تدفقت أعداد كبيرة من اللاجئين عبر الحدود، ما أثار قلق زعماء أوروبا من أن يؤجج ذلك أزمة للمهاجرين.
أما الاتحاد الأوروبي الذي قدم مليارات اليورو لمساعدة تركيا على استضافة اللاجئين مقابل وقف عبورهم إلى اليونان، فيركز الآن دعمه على مشاريع طويلة الأجل، مثل إعداد السوريين للمنافسة في سوق العمل وتمويل دورات في اللغات وتوفير التدريب المهني.
وقال سفير الاتحاد الأوروبي “كريستيان بيرجر” لرويترز: “هناك تحول طفيف من توفير المساعدات الإنسانية الأساسية إلى مساعدة أطول أمداً، وهو ما يؤدي أيضاً إلى دمج اقتصادي واجتماعي أفضل للاجئين… لمن يريدون البقاء في تركيا”.
ويجري اتخاذ خطوات لاستبعاد بعض اللاجئين من نظام للبطاقات الذكية لصرف الأموال، من أجل سداد إيجارات المنازل أو شراء الطعام، وتركز المشاريع الأحدث على مساعدة السوريين في الاندماج في المجتمع التركي.
وقال “بيرجر”: “هذه الفكرة تهدف إلى تخفيض كبير لأعداد من يعتمدون على المساعدات الإنسانية… لا يمكن أن يستمر هذا الوضع إلى الأبد”.
“ما رح نرجع على سوريا”
في بعض الأحياء، تسود حالة استياء شعبي إزاء اللاجئين. أما حكومة الرئيس “رجب طيب أردوغان” في الفترة السابقة للانتخابات البلدية التي تجري مطلع الأسبوع القادم، فسعت إلى التضخيم من شأن احتمالات عودة السوريين الوشيكة إلى ديارهم.
لكن مسؤولاً حكومياً تركياً كبيراً قال لرويترز، إنه في حين أن أنقرة تود عودة اللاجئين إلى سوريا بمجرد استعادة الاستقرار، فإنه أقر بأن البعض سيريدون البقاء في تركيا.
وأضاف: “سيكون هناك من أقاموا مشاريع مستقرة وتزوجوا. لن نجبرهم على العودة”.
وتابع: “الجهود الحالية تجري بافتراض أنهم سيعيشون هنا مرتاحين ولفترة ممتدة من الزمن”.
ونتيجة لاعتقاد معظم السوريين في البداية أنهم سيعودون إلى بلادهم في نهاية المطاف، فإنهم ألحقوا أبناءهم بمراكز تعليمية تدرس المواد باللغة العربية، وبمدارس مسائية توفر معظم المواد بلغتهم الأم.
في عام 2016 بدأت وزارة التعليم والاتحاد الأوروبي إغلاق هذه المراكز التعليمية تدريجياً ونقلا الأطفال السوريين إلى مدارس تركية، ووفرا دورات مكثفة في اللغة التركية لغير الناطقين بها لمساعدتهم على الاستقرار.
بدعم تمويل من الاتحاد، تقيم تركيا مستشفيات في خطاي وكلس وهما إقليمان جنوبيان على الحدود مع سوريا بالإضافة إلى 55 مدرسة ومركزاً اجتماعياً وتدريبياً.
واتفق الاتحاد الأوروبي مع تركيا على الشريحة الثانية من المساعدات وقيمتها ثلاثة مليارات يورو، خصص منها 500 مليون يورو للمشاريع التعليمية والبنية التحتية للمدارس من أجل اللاجئين.
وبالإضافة إلى هذه البرامج، سهلت حكومة أنقرة على السوريين الحصول على تصاريح العمل، ما ساعدهم على دخول سوق العمل الرسمية في تركيا التي يبلغ عدد سكانها 82 مليون نسمة.
في عام 2017 خفضت تركيا رسوم تصاريح العمل بمقدار الثلثين، وإن كان حتى نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي لم يكن قد حصل على التصاريح سوى 32 ألفاً فقط من جملة 3.6 مليون لاجئ سوري، بينما يعمل كثيرون بلا تصاريح.
وقال موظف إغاثة في تركيا طلب عدم نشر اسمه: “حين تتيح دخول سوق العمل وتسعى لإغلاق مراكز التعليم المؤقتة ودمج السوريين في المدارس التركية وتفتح مراكز صحية للمهاجرين، فإن هذا هو الدمج”.
في مدرسة ثانوية طليت باللونين الأزرق والأصفر في أنقرة، يتعرف التلاميذ من اللاجئين إلى تعبير اصطلاحي تركي من خلال الصور فيشاهدون صورة جسم استبدل فيه الرأس بقطعة من اللحم وترجمته: “رأس اللحم” لكن معناه “أحمق”.
يقرأ التلاميذ السوريون كل في دوره فقرة من كتاب عن السياحة في اسطنبول.
قال أحد التلاميذ، إن تعلم التركية مهم بالنسبة له، لأن أسرته لا تنوي العودة. توقف للحظة ثم طأطأ رأسه ونظر في توجس ثم قال: “ما رح نرجع على سوريا”.
الدعاية الانتخابية ومرارة الغربة
قبل الانتخابات التي تجري يوم الأحد، أكد “أردوغان”، أنه يسعى لتهيئة الظروف في سوريا حتى يعود أبناؤها إليها. وقال في يناير/ كانون الثاني: “نسعى لإقامة مناطق آمنة حتى يستطيع اللاجئون السوريون البالغ عددهم نحو أربعة ملايين الذين ما زالوا يعيشون في بلدنا العودة إلى ديارهم”.
أما رئيس الوزراء السابق “بن علي يلدريم”، مرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم لمنصب رئيس بلدية اسطنبول فقال هذا الأسبوع، إن السوريين قد يؤثرون على الهدوء في المدينة.
وأضاف: “إذا أثروا سلباً على الحياة اليومية والنظام هنا فستكون هناك تداعيات. لن نتهاون مع هذا وسنعيدهم إلى بلادهم”.
وترددت تصريحات مشابهة في مؤتمرات خلال حملة انتخابات الرئاسة العام الماضي ودأبت الحكومة على التصريح بأن مئات الآلاف من السوريين عادوا بالفعل إلى أجزاء من شمال سوريا، حيث نفذت تركيا عمليتين عسكريتين.
وقال وزير الداخلية الشهر الماضي، إن 312 ألفاً تقريباً عادوا. ولم تتمكن الأمم المتحدة من تأكيد هذا الرقم.
وقال موظف الإغاثة: “تتوقف رؤية تركيا بشأن السوريين على المناخ السياسي… لكن على الصعيد العملي تركيا قامت بعمل رائع في مجال الدمج في السنوات الثماني الماضية”.
في الشهر الماضي اندلعت مشاجرة بين سوريين وأتراك في حي إسنيورت باسطنبول ويوجد به عدد كبير من اللاجئين، ما أسفر عن إصابة أربعة أشخاص وفقا لوكالة الأناضول للأنباء.
وهرع الأتراك فيما بعد إلى الشارع وخربوا متاجر السوريين وهتفوا: “هذه تركيا”.
لكن الصدامات من هذا النوع لا تزال استثناء حتى الآن، ويقول سحلبجي إنه لا يتصور كيف يمكن أن يعود إلى بلد لا يزال مضطرباً، وحيث يخشى الاعتقال لانتماء ابنه إلى إحدى جماعات المعارضة ذات يوم.
ويقول إن عائلته لا تعاني من أي مضايقات في تركيا، ويرفض ما يقوله “أردوغان” عن عودة كل السوريين.
ابتسم قائلاً: “هذا حكي انتخابي، بس تخلص الانتخابات، انتهى”.
لكنه اختنق بالدموع حين تحدث عن الحياة في الغربة وقال: “أي الحقيقة، مو صعبة، مُرّة”.
اقرأ أيضاً: الخارجية الكويتية توضح تفاصيل الإفراح عن “رجل بشار الأسد”.. واعتراض أحد النواب
المصدر: رويترز
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=94321