تركيا بالعربي
تتعرّض منطقة خفض التصعيد الأخيرة، في محافظة إدلب شمال غرب سورية، والتي كرّسها اتفاق المنطقة منزو عة السلا ح في سوتشي، لهجو م عنيفٍ تشنّه قوات النظام ومليشياته، بدعم من حلفائها الروس منذ مطلع أيار/ مايو 2019. وقد أدى الهجوم حتى الآن إلى مقتل مئات المدنيين، وتدمير عشرات المراكز الصحية، والمدارس التي يُستخدم أكثرها مراكز للإيواء، فضلًا عن نزوح ما يزيد على نصف مليون من السكان. وهو يهدّد بإسقاط اتفاق سوتشي، ومعه كامل مسار أستانة، وفتح الباب واسعًا أمام مواجهة شاملة بين قوات المعارضة المدعومة تركيًا وقوات النظام المدعومة روسيًا.
أسباب التصعيد أخيرا
جاء هذا التصعيد الروسي بعد فشل الجولة الأخيرة من محادثات أستانة أواخر نيسان/ أبريل 2019، بمشاركة كل من روسيا وتركيا وإيران. وكان يفترض أن تتوصل الأطراف فيها إلى اتفاقٍ نهائي حول أسماء أعضاء اللجنة الدستورية ومهماتها وآليات عملها لوضع مسودة دستور جديد؛ تمهيدًا لإقرارها، وإجراء انتخاباتٍ ترى روسيا أنها الطريق الوحيدة لإنهاء الصراع المستمر منذ ثماني سنوات، وتتذرّع بأن التصعيد الأخير جاء بعد هجماتٍ نفذتها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) وأدت إلى مصرع 22 جنديًا من قوات النظام أواخر نيسان/ أبريل 2019.
إعلان
تتهم روسيا تركيا بالمسؤولية عن الإخلال بتعهدّاتها بموجب اتفاق المنطقة منزوعة السلاح، وبحاجتها إلى تأمين مطار حماة العسكري، وقاعدة حميميم التابعة لها في ريف اللاذقية، والتي تزعم موسكو أيضًا أنها تتعرّض لهجماتٍ بالصواريخ والطائرات المسيّرة من المنطقة منزوعة السلاح.
نصّ اتفاق سوتشي على إنشاء منطقةٍ منزوعة السلاح بين مقاتلي المعارضة وقوات النظام
“يأتي التصعيد الروسي بعد فشل الجولة الأخيرة من محادثات أستانة أواخر نيسان/ أبريل 2019” السوري، في ريفَي إدلب الجنوبي وحماة الشمالي، بعرضٍ يراوح بين 15 و20 كيلومترًا. كما نصّ الاتفاق على التزام الجانب الروسي ضمان عدم القيام بعملياتٍ عسكريةٍ ضد إدلب، في مقابل إبعاد الجماعات “المتطرّفة” عن المنطقة منزوعة السلاح، و”العمل على ضمان حرية حركة السكان المحليين والبضائع، واستعادة الصلات التجارية والاقتصادية، واستعادة حركة الترانزيت عبر الطريقين إم 4 (حلب – اللاذقية) وإم 5 (حلب – حماة) بحلول نهاية عام 2018″. كما أكد الطرفان “عزمهما محاربة الإرهاب داخل سورية بجميع أشكاله وصوره”، واتخاذ “إجراءاتٍ فاعلة لضمان نظام مستدام لوقف النار داخل منطقة خفض التصعيد في إدلب”. وتقوم تركيا وروسيا بتسيير دورياتٍ عسكريةٍ منسقةٍ لمراقبة الالتزام بالاتفاق باستخدام طائراتٍ من دون طيار، على امتداد حدود المنطقة منزوعة السلاح. وبموجب الاتفاق أيضًا، تستكمل تركيا إنشاء 12 نقطة مراقبة للجيش التركي في منطقة خفض التصعيد في إدلب، لحماية وقف إطلاق النار.
ويأتي التصعيد كذلك بعد فشل تفاهم روسي – تركي، تسمح تركيا بموجبه بسيطرةٍ “مدنيةٍ” أو “غير عسكرية” للنظام في مناطق من ريف إدلب الجنوبي، بما يشمل الطرق الدولية، ومدينة جسر الشغور، في مقابل السماح بسيطرةٍ تركيةٍ على منطقة تل رفعت التي توجد فيها حاليًا وحدات حماية الشعب (الكردية)، وتنطلق منها هجماتٌ على منطقة عفرين التي تسيطر عليها تركيا في إطار عملية غصن الزيتون، وأدّت إلى مقتل جندي تركي مطلع أيار/ مايو 2019. كما تأمل تركيا، في سيطرتها على تل رفعت، إلى فتح الطريق الدولية بين غازي عنتاب ومدينة حلب، ومن ثم الوصول إلى عمق السوق السورية التي خسرتها مع اندلاع الحرب. ولكن المفاوضات مع روسيا لم تتوصّل إلى أي نتيجة؛ بسبب معارضة إيران والنظام السوري سيطرة تركيا على تل رفعت؛ الأمر الذي دفع روسيا إلى المضي منفردةً في الحملة الأخيرة، في محاولةٍ لانتزاع المناطق المشرفة على طريق خان شيخون – معرة النعمان – سراقب، الممتدة بين حماة وحلب، وطريق جسر الشغور- أريحا- سراقب، الممتدة بين اللاذقية وحلب.
وقد ازداد الوضع تأزمًا بين موسكو وأنقرة، بعد أن أعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، مطلع أيار/ مايو 2019، عن قرب التوصل إلى اتفاقٍ بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية، لإنشاء منطقة عازلة بعمق 20 ـ 25 كيلومترًا، على طول الحدود السورية – التركية، في مناطق شرق الفرات، حيث تسيطر وحدات حماية الشعب التركية؛ ما يعني تحقيق انفراجٍ في العلاقات بين أنقرة وواشنطن، بعد سنين من التوتر بسبب تحالف واشنطن مع الكرد، وتجاهلها مخاوف تركيا الأمنية. وتأمل واشنطن في أن يسهم إنشاء هذه المنطقة في حل التناقض بين تركيا والأكراد؛ إذ تلبي هذه المنطقة حاجات تركيا الأمنية، من جهةٍ، بإنشاء منطقةٍ عازلةٍ على طول حدودها الجنوبية مع سورية، وتحول، من جهة أخرى، دون حصول هجوم تركي على المليشيات الكردية المسيطرة في مناطق شرق الفرات، ولكن بعيدًا عن الحدود التركية.
ويُعتقد أن روسيا تحاول الضغط على تركيا من بوابة إدلب، للحيلولة دون الاستجابة لضغوط أميركية لإلغاء صفقة صواريخ إس 400 التي تعاقدت تركيا لشرائها من روسيا، وذلك لصعوبة الشروط التي تضعها واشنطن على تركيا، لتزويدها بصواريخ باتريوت.
معطيات الميدان
ما إن انتهت جولة محادثات أستانا في أواخر نيسان/ أبريل 2019 بالفشل، حتى كثّف
“نصّ اتفاق سوتشي على إنشاء منطقةٍ منزوعة السلاح بين مقاتلي المعارضة وقوات النظام السوري، في ريفَي إدلب الجنوبي وحماة الشمالي” الطيران الروسي قصفه المنطقة منزوعة السلاح؛ تمهيدًا لهجوم قوات النظام والمليشيات المتحالفة معها. وخلال شهر من المعارك تقريبًا، تمكّنت هذه القوات من انتزاع السيطرة على 18 بلدة وقرية، في مناطق ريف حماة الشمالي والغربي، كانت تحت سيطرة المعارضة، وأهمها قلعة المضيق وكفر نبودة.
إعلان
خلال الأسابيع الأولى للهجوم، ساد صمتٌ تركيٌّ تجاه الخروق الروسية، مع تواتر أنباء عن حصول اجتماعاتٍ أمنيةٍ تركيةٍ مع النظام السوري جرى بعضها في طهران. ولكن الوضع تغير، مع امتداد القصف الروسي إلى عمق منطقة خفض التصعيد، وحصول حملات تهجيرٍ واسعة للسكان، وقصف النظام محيط نقاط المراقبة التركية في ريف حماة الشمالي.
بناء عليه، أطلق تحالف من قوات المعارضة في 6 حزيران/ يونيو 2019، هجوما مضادا، أدى إلى استعادة بعض المناطق التي انتزعها النظام، والسيطرة على مناطق كانت سابقًا تحت سيطرة النظام في ريف حماة الشمالي. وقد شاركت في المعارك قوات “الجبهة الوطنية للتحرير” المدعومة من تركيا، كما أعطى استخدام المعارضة أسلحةً جديدةً مضادّة للدروع مؤشراتٍ حول مدى التزام تركيا بدعم المعارضة، وأهمية معركة إدلب بالنسبة إليها، فضلًا عن ظهور أسلحة مضادة للطائرات تقول المعارضة إنها ساعدت، إلى درجةٍ ما، في الحد من تأثير القصف الجوي في أثناء المعارك، بعد إصابة طائرة سوخوي 22 تابعة للنظام.
إعلان
حتى الآن، باءت بالفشل محاولات روسيا إنشاء وقائع جديدة على الأرض، عبر فرض سيطرتها على مثلث سهل الغاب حتى جسر الشغور، وأيضًا في شمال شرق إدلي وجنوب شرقها، أي الطرق الدولية اللاذقية – حلب وحماة – حلب، لكن هذا لم يؤدّ إلى التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
احتمالات التصعيد والتسوية
على الرغم من التصعيد الكبير الذي شهدته المنطقة منزوعة السلاح، فإن أسباب إنشاء هذه المنطقة ما زالت قائمة بالنسبة إلى الطرفين، الروسي والتركي. وتدرك موسكو أن عملية عسكرية كبيرة في إدلب ستؤدي، بالضرورة، إلى انهيار مسار أستانة، الذي يتعرّض لضغوط شديدة مع استمرار محاولات الولايات المتحدة إعادة الاعتبار إلى مسار جنيف، وزيادة ضغطها على إيران لإخراجها من سورية.
يعدّ اتفاق إدلب أمل موسكو الوحيد لإنقاذ مسار أستانة الذي تهدّد تركيا بالانسحاب منه، إذا قامت روسيا بعمل عسكري كبير ضد إدلب. ومن شأن ذلك أن يقوّض فرص الحل السياسي وفق الرؤية الروسية في سورية، والقائمة على ثنائية الدستور والانتخابات. أما في إطار إستراتيجي أوسع، فإن عملية عسكرية كبيرة في إدلب ستدفع تركيا مجدّدًا إلى التقارب مع الغرب، وستؤدي، بالضرورة، إلى تبديد كل جهود روسيا لانتزاع تركيا من حضن الولايات المتحدة؛ تلك الجهود المستمرة منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز/ يوليو 2016، بما في ذلك مساعي ربط تركيا بروسيا باتفاقياتٍ حول التجارة والطاقة، وحتى تزويدها بمنظومة صواريخ إس 400 التي أثارت قلقًا واسعًا في الغرب، وبين حلفاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
نجحت تركيا في إيضاح أهمية إدلب بالنسبة إليها، من خلال دفع أعداد كبيرة من قوات المعارضة السورية، بما في ذلك الموجودة في مناطق درع الفرات، إلى المشاركة في صد الهجوم الروسي على إدلب، وتزويدها بأسلحة نوعية، ساهمت في استعادة أجزاء من المناطق التي سيطر عليها النظام، كما ساهمت في السيطرة على مناطق جديدة.
وأوصلت المقاومة الشرسة التي أبدتها قوات المعارضة في الدفاع عن معقلها الأخير رسالة
“الإبقاء على الاتفاق مصلحة لتركيا وروسيا في الأزمة” تركية مهمة إلى روسيا، مفادها بأن معركة إدلب، في حال قرّرت روسيا خوضها، لن تكون كبقية المعارك، خصوصا مع ظهور أسلحة مضادة للطائرات. كما أظهرت هذه المقاومة حرص تركيا على إبقاء سيطرة فصائل المعارضة على إدلب، باعتبارها ورقةً مهمةً للضغط في اتجاه الحل السياسي.
والمرجّح أن تؤدي الضغوط الدولية دورًا في منع وقوع حمام دم في إدلب، أو موجات نزوح واسعة؛ بسبب وجود نحو أربعة ملايين مدني في المحافظة، أكثرهم من النازحين من مناطق أخرى داخل سورية، في حال حصول هجوم عسكري روسي شامل عليها. وكانت الولايات المتحدة حذّرت من أنها لن تقف مكتوفة اليدين في حالة استخدام السلاح الكيماوي في الهجوم على إدلب. ويقلل ذلك كله من احتمالات حصول مواجهة شاملة في المدينة، ويرجّح بقاءها محصورة في مناطق محددة ذات أهمية إستراتيجية أو اقتصادية.
خاتمة
على رغم اختلاف مصالحهما، واختلاف رؤية كلّ منهما لما نُفذ من الاتفاقيات حتى الآن، ما زالت روسيا وتركيا تجدان مصلحةً في الحفاظ على اتفاق المنطقة منزوعة السلاح في إدلب. وسوف تسعى تركيا إلى فرض وقف لإطلاق نار في المنطقة، والعودة إلى الوضع السابق، أي ما قبل الحملة العسكرية التي بدأها النظام السوري مطلع أيار/ مايو 2019، وحقّق فيها تقدّمًا. أما روسيا فسوف تحاول إلزام تركيا تنفيذ أجزاءٍ من اتفاق المنطقة منزوعة السلاح، وخاصة المتعلقة بإبعاد فصائل المعارضة إلى الشمال؛ ما يوفّر الحماية لقاعدة حميميم الجوية الروسية من الهجمات الصاروخية والطائرات المسيّرة، وفتح الطريق الدولية بين اللاذقية وحلب وبين حماة وحلب، وهو شريان التجارة الرئيس الذي يحتاجه النظام، للبدء بالتعافي اقتصاديًا. ولكن هذا لن يحصل من دون تفاهماتٍ حول مستقبل تل رفعت، والوجود الكردي في مناطق غرب الفرات؛ ما يرجّح بدء جولة جديدة من المفاوضات التركية – الروسية. ولن تكون واشنطن بعيدة عن تلك المفاوضات، في ضوء ارتباطها بتحالفها مع الأكراد ووجودها العسكري في منبج التي لم يحسم وضعها بعد.
في كل الأحوال، الإبقاء على اتفاق سوتشي هو مصلحة لتركيا وروسيا في الأزمة، في ضوء عدم إمكانية حسم وضع إدلب، ريثما تتّضح صورة التفاهمات الإقليمية والدولية حول قضايا الحل السياسي في سورية وكيفية الوصول إليه. وهذا لا يعني أن روسيا والنظام لن يستغلا أي فرصة للتقدّم على جميع المحاور، إذا سنحت مثل هذه الفرصة.
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=104232