انتقادات لاذعة لدبلوماسيين رفيعي المستوى وعسكريين بدول حليفة لتركيا، ارتفعت حدّتها مؤخرا، لتبلغ ذروتها عقب تصريحات لمسؤولين أتراك وروس، تتعلق بقرب الاتفاق بينهما على شراء أنقرة منظومة الدفاع الجوية الروسية “إس 400”.
مشهد لا يختلف كثيرا عن ذاك الذي عرفته تركيا قبل أعوام، حين كانت تجري مباحثات مع شركة الآلات الدقيقة للاستيراد والتصدير الصينية، لاستيراد نظام دفاع جوي.
ففي ذلك الحين، قدمت الشركة الصينية عرضها لمستشارية الصناعات الدفاعية التركية، كما قدمت شركات من الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وإيطاليا عروضا مماثلة لتركيا؛ غير أنّ عرض الشركة الصينية كان أقل تكلفة بفارق كبير عن باقي عروض الشركات.
أبدت شركة الآلات الدقيقة الصينية رغبتها بمشاركة خبراتها التكنولوجية في المجال الدفاعي مع تركيا، وتعهدت بالانتاج المشترك في الخطوة التالية.
غير أن الاتفاق الصيني التركي سرعان ما أثار “قلق” دول حلفاء تركيا، وقالت إنه في حال إقامة الصين منظمة دفاع جوية على الأراضي التركية، فسينجم عن ذلك تسريب معلومات حساسة استراتيجية عسكرية للصين، ومن ثم تسريب الصين لهذه المعلومات لدول أخرى في حال رغبت بذلك.
قلق حلفاء تركيا طال أيضا احتمال عدم الإنسجام بين منظومة الدفاع الصينية ونظام “الدرع الصاورخي” لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، ومن ضمنها قاعدة “كورجيك” المتطورة بولاية ملاطية جنوب شرقي تركيا.
حاول المسؤولون والخبراء الأتراك إقناع حلفائهم عبر تقديم ضمانات لحيلولة تسريب معلومات للشركة الصينية، علاوة عن إمكانية تحقيق تلائم بين المنظومة الصينية ونظام “الناتو”.
لكن، ورغم التوضيحات التقنية التركية المطمئنة للحلفاء، وإمكانية تلائم المنظومتين وعملهما معا دون وقوع مشاكل، غير أنّ مسؤولا رفيعا في حلف شمال الأطلسي، قال لكاتب هذه المقالة في حديث خاص ببروكسل، إن “الحلفاء لم يحبّذوا فكرة المنظومة الصينية لأسباب سياسية”.
ومع مرور الأيام، وإثر إجراء تقييمات مطوّلة داخل أروقة مؤسسات الدولة التركية، عزفت أنقرة عن قرار شراء منظومة الدفاع الصينية، ووضعتها في رفوف الدراسة والانتظار لأجل غير مسمّى.
وعلاوة على ذلك، أصدرت مستشارية الدفاعات الصناعية التركية بيانا قالت فيه إن الحكومة التركية اتخذت قرار تشجيع الشركات المحلية للاستثمار داخل البلاد وتصنيع أنظمة مشابهة.
عقب هذه المرحلة، لم يتأخر إطلاق مفاوضات بين الحكومة التركية وشركات أجنبية، وخصوصا منها الأمريكية والفرنسية الإيطالية المشتركة، لتزويد تركيا بمنظومة دفاع جوية.
وبالتوازي مع هذه التطورات، وقعت حادثة إسقاط تركيا، على حدودها الجنوبية، لمقاتلة روسية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، الأمر الذي تسبب بأزمة استمرت نحو عام بين البلدين.
وتلت الأزمة فترة تطبيع العلاقات أفضت في نهايتها إلى مباحثات بين الجانبين لبيع روسيا منظومتها الدفاعية الجوية “إس 400” لتركيا، في وقت تحتاج فيه أنقرة، بشكل ملح، إلى نظام دفاع قوي في حدودها الجنوبية على وجه الخصوص.
اتفاق فجّر سيناريو الانتقادات الغربية نفسها، ليصنع حلقة جديدة في سلسلة مواقف تتشابه عبر التاريخ حدّ التماهي، تماما كما يشهد بذلك التاريخ، وتحديدا موقف حلفاء تركيا في “الناتو” إزاء قرار قبرص الرومية، عام 1998، شراء منظومة الدفاع الجوية “إس 300” من روسيا.
ففي ذلك الوقت، حذّر المسؤولون الأتراك نظرائهم الغربيين من أنّ خطوة كهذا ستعطل التوازن الاستراتيجي شرق “المتوسط”، بين اليونان وتركيا لحد كبير، وسينجم عنها عواقب وخيمة لجميع الأطراف.
غير أن”عدم الرضا” كان السمة البارزة المخيمة على موقف حلفاء تركيا في “الناتو”، بل ليس من الخطأ قول إنّ حلفاء تركيا في “الناتو” لم يرف لهم جفن حيال خطة قبرص الرومية في نصب منظومة دفاع جوية بالجزيرة.
كما أنّ تخزين الجانب القبرصي الرومي بطاريات الصواريخ في جزيرة “كريت”، ومن ثم نقل إدارتها لليونان بموجب اتفاق بينهما، جاء نتيجة الموقف الحازم لتركيا بعدم نصب منظومة “إس 300” بجزيرة قبرص.
14 عاما تقريبا على ذلك، قررت اليونان إدخال منظومة “إس 300” لنظام دفاعها الجوي، وقامت بتجربتها في مناورات عسكرية، في 2013، حملت اسم “النسر الأبيض”، ولم يصدر أي “قلق” أو “نقد” من حلفاء تركيا إزاء هذا الأمر.
ولدى إشارة تركيا إلى استخدام اليونان مثلا لأنظمة صواريخ روسية، وعدم اعتراض الناتو، يبرر المسؤولون الغربيون ذلك بأن “أثينا تستخدم نظام الصواريخ خارج نطاق الناتو”، ولذلك يرون أنّه “ما من قلق كبير يشكله ذلك عليهم”.
غير أنه، وبمجرد اتخاذ تركيا قرارا بشراء منظومة الدفاع الجوية الروسية “إس 400″، والتي تعتبر النسخة المعدّلة لـ “إس 300″، لاستخدامها بشكل منفصل عن نظام “الدرع الصاروخي” لحلف شمال الأطلسي، ارتفعت حدة انتقادت العواصم الغربية ومسوؤليها السياسيين والعسكرييين.
بل إن منسوب النقد ارتفع ليبلغ درجة التلميح باتخاذ إجراءات إحترازية ضد تركيا، لمنعها من الحصول على نظام الدفاع الجوي الروسي.
ليس هناك أدنى شك، بأن تركيا بحاجة إلى نظام دفاع جوي ذي فعالية كبيرة، ضد تهديدات ظهرت مؤخرا على وجه الخصوص، مع ارتفاع القدرات الصاروخية لجيران لها في الشرق الأوسط.
غير أنه لا يسع أنقرة، حاليا، نصب منظمة دفاع جوية فاعلة على أراضيها بمفردها، لعدم امتلاكها القدرات العلمية والتكنولوجية الكافية.
ولهذا السبب، تجد أنقرة نفسها أمام خيارين، فإما أن تشتري هذه المنظومة من الخارج، وإما التعاون مع أحد الحلفاء ممن يمتلكون القدرة على نصب منظومة دفاع جوية في تركيا، ثم التوصل إلى امتلاك ذات القدرة محليا.
ولكن، ومع أن حلفاء تركيا يصفونها بـ “الحليف الموثوق”، إلا أنهم يبدون ترددا حيال مشاركة خبراتهم العلمية والتكنولوجية مع تركيا على المدى الطويل، كما أنهم لا ينوون بيع المنظومة بسعر معقول.
ورغم إعلان حلف شمال الأطلسي، عقب قمّته المنعقدة، في 2012، بولاية شيكاغو الأمريكية، إمكانية دمج القوات التركية في نظام “الدرع الصاروخي”، غير أن ذلك لا ينفي حقيقة أن النظام لا يمكنه، بسبب العوائق التكنولوجية والطبوغرافية، حماية جميع الأراضي التركية، حيث أن قسما كبيرا منها، خصوصا بالمناطق الشرقية والجنوبية، ستكون خارج نطاق نظام الدرع الصاروخي.
وفي الآن نفسه، يبدو من الطبيعي أن لا تلتزم أنقرة الصمت حيال التهديدات الواضحة الواردة إليها من جيران لها بالمنطقة.
كما أنه، وبسبب هذه التهديدات، تحتاج تركيا إلى نظام دفاع جوي لسدّ فجوة نظام الدفاع الصاروخي، وهو ما لا يمكن أن يتحقق على المدى القصير إلا عبر شراء منظمة دفاع جوية من الموردين الرئيسيين لهذه المنظومات.
أما على المدى الطويل، فيمكن لها تغطية حاجتها من منظومات الدفاع الجوية عبر رفع قدراتها في الصناعات الدفاعية على الصعيدين العلمي والتكنولوجي، بشكل يمكّنها من الوصول إلى مرحلة الإنتاج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأستاذ الدكتور مصطفى كبار أوغلو، المحاضر في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة “MEF” (إسطنبول)، ورئيس القسم بنفس الوقت، ومدير مركز الدراسات الاستراتيجية ودراسات الأمن الدولي بالجامعة ذاتها.
يني شفق
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=21850