مشادّة هنا ومصالحة هناك، هكذا بدا الأمر خلال السنوات الماضية في العلاقات الخارجية لتركيا، في ظل حكم الرئيس القوي رجب طيب أردوغان.
يبدأ الأمر في الأغلب بسبب رفض أنقرة، وخاصة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، التدخل في شؤونها الداخلية، أو التعامل معها كدولة درجة ثانية.
ثم تتصاعد المشاعر والتصريحات، ويتحدث الجميع عن تعرّض المصالح التركية للخطر، ولكن أنقرة تبدو في كل مرة قادرة على إعادة توجيه علاقاتها الخارجية في اتجاه مختلف، كلما بدا أنها تعاني من أزمة مع أحد شركائها الرئيسيين.
والآن في الوقت الذي تتوتر فيه العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا، ها هي تزداد علاقة أنقرة بأوروبا دفئاً، بعد أن شهدت توترات سابقة، حسب ما ورد في تقرير لشبكة Voice Of America الأميركية.
فقد أفادت تقارير بأنَّ برلين دعت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لزيارة رسمية للبلاد. في الوقت نفسه، يُنظِّم أردوغان لعقد قمة بين فرنسا وألمانيا وروسيا في بلاده لمناقشة القضية السورية.
وأعادت هولندا علاقاتها الدبلوماسية الكاملة مع تركيا، في الشهر الماضي يوليو/تموز، بعد مشاحنة مريرة بين قادة البلدين.
وكانت الحكومة الهولندية قامت في 11 مارس/آذار 2017، بإلغاء إذن هبوط الطائرة التي كانت تقل وزير خارجية تركيا جاويش أوغلو، لإلقاء خطاب أمام المواطنين الأتراك في هولندا، قبيل الاستفتاء على التعديلات الدستورية في تركيا، كما منعت وزيرة الأسرة والشؤون الاجتماعية التركية في تلك الفترة فاطمة بتول صايان قايا، من دخول القنصلية التركية في روتردام، وألقت الشرطة القبض على حرّاسها، وتم إجبارها على العودة إلى ألمانيا بمرافقة الشرطة.
وفي أعقاب ذلك، طلبت تركيا من السفير الهولندي لديها، الذي كان خارج البلاد عدم العودة، وقصرت الدولتان علاقاتهما الدبلوماسية منذ ذلك الحين على مستوى القائم بالأعمال إلى حين عودة العلاقة بينهما.
والآن جاء موعد التوتر مع أميركا.. تهديد ووعيد عالي المستوى
توترت العلاقة الأميركية التركية مؤخراً، ووصلت إلى حد تهديد واشنطن لأنقرة بفرض «عقوبات» إذا لم تُفرج عن قس أميركي «تحت الإقامة الجبرية» بتركيا.
فقد أعلن نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، الخميس 26 يوليو/تموز 2018، أن الولايات المتحدة ستفرض «عقوبات» على تركيا إذا لم تتخذ «تدابير فورية للإفراج» عن القس الأميركي أندرو برانسون، الذي وضعته أنقرة قيد الإقامة الجبرية بعد طول اعتقال.
كما طالب الرئيس الأميركي دونالد ترمب تركيا بالإفراج «فوراً» عن القس الأميركي، الذي لا يزال يحاكم بتهمتي «الإرهاب» و «التجسس»، ووصفه بأنه مسيحي رائع ورب عائلة.
ولكن قبل ذلك فشل الكونغرس في تنفيذ تهديداته
وفشل الكونغرس في أزمة سابقة في إيقاف تسليم أميركا طائرات إف-35 لتركيا.
إذ سلمت المجموعة الدفاعية الأميركية لوكهيد مارتن، مسؤولين أتراكاً المقاتلة خلال احتفال أقيم في فورت وورث بولاية تكساس الأميركية، يوم الخميس 22 يونيو/حزيران 2018.
وتعتبر هذه الطائرة جوهرة التكنولوجيا، وتعتزم تركيا شراء حوالي 100 طائرة من طراز إف-35، وبذلك تنضم إلى المملكة المتحدة وأستراليا كواحدة من أكبر الزبائن الدوليين.
وتقوم عشر شركات تركية على الأقل ببناء قطع غيار ومكونات للمقاتلات لشركاء آخرين، مثل شاشات العرض في قمرة القيادة، وفقاً لشركة Lockheed Martin التي يقع مقرها في مدينة بيثيسدا بولاية ماريلاند الأميركية.
وترتكز مُعارضة الكونغرس السماح لتركيا بشراء طائراتٍ من طراز إف-35 حول نقطتين: احتجاز تركيا القس الأميركي أندرو برونسون، وإبرامها اتفاقيةً لشراء نظام إس-400 الروسي للدفاع الجوي.
وكان وزير الدفاع الأميركي جيم ماتيس قد حذَّر الكونغرس من وقف عمليات تسليم طائرات إف-35. وقال ماتيس في رسالةٍ إلى المشرعين، إنَّه على الرغم من اتفاقه مع «مخاوف الكونغرس» حول ما وصفه بالاتجاه الاستبدادي في تركيا، وتأثيره على حقوق الإنسان وسيادة القانون، فإنَّ وقف إرسال طائرات إف-35 يخاطر بـ «تعطيل سلسلة الإمدادات» الدولية، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع التكاليف وتأخير تسليم المقاتلات.
وقبل ذلك، أصرَّت تركيا على إبرام صفقة صواريخ إس 400 مع روسيا رغم اعتراض واشنطن، هذه الصفقة نفسها جاءت بعد تحسن ملحوظ في العلاقات بين أنقرة وموسكو، بعد وصولها لذروة توترها إثر إسقاط تركيا لطائرة روسية، قالت إنها اخترقت مجالها الجوي قادمة من سوريا.
الاتهامات مع الأوروبيين متبادلة دائما
شهدت العلاقات بين تركيا وأوروبا حالة من الجمود الشديد على مدى أكثر من عام.
وكان أردوغان قد انخرط كثيراً في أسلوب خطاب أثار غضب القادة الأوروبيين، وكان غالباً ما يتهمهم بالتصرف مثل النازيين. كما أدى احتجاز تركيا لعدد من المواطنين الأوروبيين، لاسيما المواطنين الألمان، إلى وصول العلاقات مع برلين إلى نقطة الانهيار.
واتخذت أوروبا، بقيادة ألمانيا، موقفاً حازماً بشكل متزايد تجاه تركيا، مع تهديدات بفرض عقوبات مالية واقتصادية.
ومن الصعب إيجاد السبب الفعلي وراء هذا التدهور في العلاقات، في ظلّ تشابك ردود الفعل بين الجانبين.
ولكن تتحدث أغلب المصادر الغربية، عن أن الأمر يعود إلى قلق الغرب مما يوصف بحملة القمع عقب الانقلاب، إذ أقالت السلطات التركية نحو 150 ألف شخص، أو أوقفتهم عن العمل، كما اعتقلت أكثر من 50 ألفاً للاشتباه بصلتهم برجل الدين فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، الذي تلقي أنقرة باللوم عليه في محاولة الانقلاب.
في المقابل فإن أردوغان اتهم الغرب بأنه يدعم الإرهاب والانقلاب، وقال إن هذا الانقلاب لم يكن حدثاً خطط له من الداخل، وإن «المنفذين تحركوا في البلاد بحسب سيناريو تم تدبيره من الخارج».
ولكن حتى داخل أوروبا هناك من ينتقد مواقف الاتحاد الأوروبي تجاه الانقلاب
ففي مقال نشره في صحيفة «بوليتيكو» الأميركية، انتقد رئيس وزراء السويد السابق كارل بيلدت، عندما كان يشغل منصب رئيس مجلس أوروبا المشارك لشؤون العلاقات الخارجية، ردود فعل المسؤولين في أوروبا، عقب فشل المحاولة الانقلابية على أردوغان في تركيا.
وتساءل بيلدت، رئيس الوزراء السابق المعروف في السويد، الذي شغل سابقاً منصب وزير الخارجية أيضاً: «هل تغطّ بروكسيل في نوم عميق أم أنها في جهل مدقع؟ هذا هو السؤال الذي يُطرح بعد الرد الفاتر للزعماء الأوروبيين على المحاولة الانقلابية العسكرية التي جرت في تركيا يوم الخامس عشر من يوليو/تموز».
وعبّر بيلدت عن استيائه، وذلك لأن الاتحاد الأوروبي ليلة الانقلاب في تركيا، استغرق زمناً قبل أن يعلن عن تنديده بالمحاولة الانقلابية، وقال: «لم نشهد ما يدل على أن أياً من ممثلي الاتحاد الأوروبي سارع بالطيران إلى تركيا فيما بعد؛ ليُعرب عن دعم الاتحاد لبلد طامح في الانضمام إليه، في مواجهة أكبر تهديد يتعرض له نظامه الدستوري، حتى تلك اللحظة».
كما ينتقد أردوغان ما يعتبر أنه عدم التزام من قبَل الأوروبيين بتعهداتهم أنقرة، إذ سبق أن قال: «موقف الاتحاد الأوروبي واضح… مر 54 عاماً وما زالوا يعبثون معنا»، مشيراً إلى ما وصفه بعدم وفاء بروكسل بتعهداتها فيما يتعلق بكل شيء من اتفاق تأشيرات الدخول إلى مساعدة المهاجرين السوريين.
أخيراً توقف السجال بين الأوروبيين والأتراك.. فقد اكتشف كل منهما حدوده
«سبب توقف المشاحنات بين تركيا والاتحاد الأوروبي هو أنَّ الاتحاد الأوروبي قد توصل أخيراً إلى استنتاجات بشأن كيفية التعامل مع تركيا»، حسبما تقول أتيلا يسيلادا، المحلل السياسي في مؤسسة Global Source Partners: كما أن أردوغان أدرك أنَّه لا يستطيع فرض إملاءات على الاتحاد الأوروبي».
وتُقدم إعادة انتخاب أردوغان في يونيو/حزيران 2018 فرصة لإعادة ضبط العلاقات مع أوروبا، حسب تقرير الشبكة الأميركية.
وقال حسين بجشي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الشرق الاوسط الفنية في أنقرة: «ستكون هناك سياسات منخفضة التوتر على الجانبين؛ إذ سيتعيَّن على أوروبا وأردوغان التعامل مع بعضهما البعض في السنوات الخمس المقبلة».
وأضاف: «إنَّ السياسات والاستراتيجيات الاقتصادية التركية تتطلب التعاون أكثر من المواجهة على المدى الطويل. أنا أعتبر هذه فترة جديدة مع العديد من الدروس المستفادة، مع سياسة خارجية أكثر واقعية وبراغماتية وتوجّه نحو سياسة اقتصادية في السنوات المقبلة».
والآن الطرفان غاضبان من الانسحاب الأميركي من الاتفاق مع إيران
توصلت تركيا والاتحاد الأوروبي إلى أرضية مشتركة في معارضة الانسحاب الأميركي من الاتفاقية الدولية الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني، إذ تواجه الشركات التركية، مثل نظيراتها الأوروبية، عقوبات أميركية جراء علاقاتها التجارية مع إيران.
ومع ذلك، يشير محللون إلى أنَّ أي أمل من جانب أنقرة في اتخاذ موقف موحد ضد واشنطن هو في غير محله.
وقال الدبلوماسي التركي السابق آيدن سيلسين، إنَّ «الطريقة التي تتعامل بها دول الاتحاد الأوروبي مع العقوبات الإيرانية مختلفة. نحن نعلم بالفعل أنَّ هناك علامات تجارية أوروبية كبرى قد غادرت إيران».
ولكن هناك جائزة تلوح في الأفق.. الأمر متعلق بسوريا
تظل العوامل الاقتصادية قوة دافعة مهمة وراء التقارب بين تركيا وأوروبا. يلتزم أردوغان بمواصلة سلسلة من مشاريع البناء العملاقة، التي تشمل أحد أكبر المطارات في العالم وقناة بحرية رئيسية تمر عبر إسطنبول.
وقال حسين بجشي، أستاذ العلاقات الدولية: «إذا أراد أردوغان تحقيق المشاريع التركية الكبرى، يتعيَّن عليه التعاون مع المؤسسات المالية الدولية والمقرضين الدوليين». وأضاف: «لقد دمرت الحرب العراق وسوريا. والآن حان الوقت لإعادة الإعمار، وهناك حاجة إلى دعم أوروبا من أجل ذلك».
مع وجود تركيا على الحدود مع سوريا والعراق، يشير محللون إلى أنَّ أردوغان يرى إعادة إعمار جيرانه باعتبارها فرصة لإنعاش الاقتصاد التركي، لا سيما صناعة البناء المتعثرة.
ويُتوقَّع أن تُركز قمة أردوغان المقرر عقدها في وقت لاحق من هذا العام مع فرنسا وألمانيا وروسيا على مهمة إعادة بناء سوريا.
المخاوف الأوروبية بشأن الوضع الحقوقي بتركيا
قد تؤدي مخاوف أوروبا المستمرة بشأن سجل تركيا في مجال حقوق الإنسان إلى تعقيد جهود التقارب. فبموجب معايير كوبنهاغن المُحدِّدة لشروط الانضمام للاتحاد الأوروبي، يجب أن تلتزم تركيا، كمرشحة لعضوية الاتحاد الاوروبي، بمراعاة حقوق الإنسان الأساسية.
وتساءل المحلل السياسي أتيلا يسيلادا: «كيف ستعمل أنقرة على إرضاء أوروبا، التي تصر على الامتثال الصارم لمعايير كوبنهاغن؟. أنت لا يمكنك ببساطة منع الأشخاص من منشورات وسائل الإعلام الاجتماعية التي لا تحبها».
وانتقدت بروكسل مراراً وتكراراً أنقرة بشأن حقوق الإنسان، خاصةً افتقارها إلى حرية التعبير، حسب قولها .
ورغم أن أردوغان أنهى هذا الشهر عامين من حالة الطوارئ التي فُرِضَت على البلاد بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشل عام 2016 ، في خطوة فُسِّرَت كإشارةٍ مُوجَّهة إلى أوروبا، فإن بعض المنتقدين انتقدوا هذه الخطوة، مشيرين إلى أنَّ التشريع الجديد الذي يمر عبر البرلمان يتضمن العديد من أكثر العناصر صرامة في حالة الطوارئ.
الشروط الحقوقية تم التخلي عنها مع أعضاء سابقين
وأعطت معايير كوبنهاغن مؤسسات ودول الاتحاد الأوروبي سلطة نافذة في محاكمة القوانين والإجراءات المحلية للدول الراغبة بالعضوية، وتقييمها على مقياس القيم الأوروبية المشتركة.
ولكن يبدو أن تركيا تخضع لفحص المجهر الأوروبي أكثر من غيرها من دول المنطقة التي تزخر بالانتهاكات، حسب وصف تقرير لموقع الجزيرة.
وتخلت أوروبا في بعض الأحيان عن مشروطيتها الصارمة فيما يتعلق بشروط العضوية، كما فعلت عام 2004 حين ضمّت ثماني دول من المعسكر الشرقي سابقًا، ولكن هذا التسامح يبدو أنه لن يصل لتركيا، إذ إنه تم تبريره بأنه كان مدفوعاً برغبة سياسة وأمنية في»أوربة» قلاع الشيوعية السابقة.
في حين تسير الرغبة السياسية معاكسة لسفن تركيا، بصورة تجعلها أكثر خضوعاً للمشروطية والوصاية التي تمارسها العواصم الأوروبية أيضاً في سياق علاقتها الثنائية مع أنقرة، وليس فقط تحت مظلة الاتحاد الأوروبي.
وقال يسيلادا: «إذا وضع أردوغان مزيداً من التركيز على علاقات أفضل مع الاتحاد الأوروبي، قد يؤدي ذلك إلى موقف أكثر تسامحاً تجاه المنشقين والمعارضة».
وأضاف: «لكن هناك رسائل متضاربة. تخشى المعارضة من فرض المزيد من الإجراءات القمعية. أنا أعتقد أنَّ استمرار حملة القمع والهجوم هو أمر غير قابل للتنفيذ بالنظر إلى الوضع الاقتصادي وموقف تركيا المترنج بين الغرب والشرق»، حسبما نقلت عنه شبكة Voice Of America.
يبقى ترجمة ذلك لتقدّم حقيقي في القضايا الخلافية
توقَّع أرتوغرال كوركسو، عضو مجلس أوروبا عن حزب الشعوب الديمقراطي التركي المعارض، أنَّنا «سنسمع المزيد من العبارات الشفهية المؤيدة لأوروبا من مسؤولي الشؤون الخارجية الأتراك. لكن لن نرى سوى تقدّم ضئيل بشأن قضايا المهاجرين والقضية القبرصية».
تظل قضية الهجرة ورقة مهمة للتعامل مع الاتحاد الأوروبي. تسيطر تركيا بنجاح على تدفّق المهاجرين إلى أوروبا كجزء من صفقة وقّعتها قبل عامين مع بروكسل. تنظر قوات الأمن الأوروبية إلى التعاون التركي في مراقبة الجهاديين الأوروبيين العائدين من سوريا باعتباره أمراً حيوياً.
ومع ذلك، لا يتوقع محللون أن يقدم التقارب مع أوروبا أي أمل في إحياء طلب انضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. لكنَّهم يقولون إنَّ العلاقة بين الاثنين من المرجح أن تكون مبنية على مبادرات متعلقة بالمعاملات.
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=63432