قد لا يكون جديداً أن يستخدم بشار الأسد عبارات لا تدل سوى على الركاكة اللغوية، كما فعل في مقابلته الأخيرة مع قناة RT الروسية بنسختها الإنجليزية، فالمذكور يقول متحدثاً عن التهديد الإسرائيلي: “لقد بات هذا جزءاً من لاوعينا الشعوري”. والمشكلة هنا ليست في زلة لسان، وإنما هي في تلك الرغبة في الاستطراد والحشو التي تلجم القائل عن الاكتفاء بالتحدث عن اللاوعي، ومن المتوقع أن الرغبة في الاستطراد والحشو لا تتوقف دلالتها عند حب الثرثرة فحسب، إذ طالما كانت أيضاً مؤشراً على عدم فهم البعد التواصلي للّغة، مع الإصرار على استباحتها وامتلاكها رغماً عن نظامها المفهومي.
يستخدم مختصون في علم النفس تعبير “الطفالة” في الدلالة على التثبيت النفسي عند مرحلة الطفولة، وفي الحوار ذاته نرى بشار الأسد يستخدم جملة لا يستخدمها سوى الأولاد الصغار، فيرد على وصف ترامب إياه بالحيوان قائلاً: “الكلام صفة المتكلم”. الجملة التي يستخدمها بشار هنا يستخدمها عادة أولئك الصغار الذين يريدون الظهور كمن يترفع عن ردّ الشتيمة التي ينالها من زميل له، وغالباً يخفي هذا الادعاء أمرين، الأول هو الشعور بالإهانة والثاني الشعور الضعف إزاء موجَّهها، فيأتي الرد بهذا الأسلوب تعبيراً عن ترفع كاذب.
وإذا جمعنا تلك الطفالة مع التعدّي “المتثاقف” على اللغة فهي خلطة تنبئنا أولاً بآلية التفكير التي تتحكم ببنية تنظيم الأسد، مع التنويه بأن شخص بشار طالما قُدِّم بوصفه الأكثر تنوراً ضمن عائلته، ومؤيدو العائلة لا يخفون أن ميزة شقيقه ماهر تكاد تقتصر على بطشه الشديد. وإذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء؛ لم يكن الوريث الأول باسل الأسد بأفضل حالاً على هذا الصعيد، ورغم تسليط الأضواء عليه بشدة لم يظهر متحدثاً إلا نادراً وعلى نحو عابر. ذلك قد يقود إلى دلالات شخصية، فأولاد حافظ الأسد ظلوا خارج إصراره الشخصي على إظهار فصاحته، ولا يُستبعد أن يكون إصراره ذاك قد خلّف لديهم كبتاً وإعاقات لغوية، بحيث لا يستطيعون التحدث ببساطة وعفوية مثل جميع البشر، ولا يستطيعون تقليد الأب من دون الوقوع في أخطاء تفضح عجزهم.
اقرأ أيضاً: قرار خطير.. هكذا ردّ بشار الأسد عندما سُئل عما سيفعله بإدلب
جدير بالذكر أن سهيل الحسن، الذي يُروّج لكونه رجل موسكو، ابتدع بدوره مقولات من نوع “اللاشعور المنظَّم”، ومقولات أخرى من نوع: وطننا غالي، منحنا الهواء، ويمنحنا الغذاء ونشرب منه الماء! ومع أن المذكور ليس ابناً بيولوجياً لحافظ الأسد إلا أنه ليس خارج البنوة بمفهومها الأوسع، فهو ابن الدائرة الأشد إخلاصاً للعائلة ولتمثُّلها على أكمل وجه، بما في ذلك تمثُّل تلك الإعاقة اللغوية الناجمة عن محاولة تقليد الأب والمتلازمة مع عقدة الخصاء تجاهه.
بالطبع لا دعي للتدليل على دماثة بشار ودبلوماسيته بأمثلة من نوع اتهامه القادة العرب عام 2006 بأنهم أنصاف رجال، مستقوياً حينها بإيران وحزب الله، أو وصفه المتظاهرين السلميين في مستهل الثورة بالجراثيم، أو حتى وصفه في لقائه الأخير مع RT القادة الغربيين بأنهم دمى تحركها واشنطن، وكأنه صاحب سيادة. الأهم كان منذ استلامه السلطة هو الوقوع في أخطاء الثرثرة اللغوية كلما خرج عن النص المكتوب، فوق ركاكة المكتوب أيضاً. وهذا إذا كان يعبّر عما هو شخصي إلا أنه يعبّر أيضاً عن فراغ تنظيم الأسد من أي محتوى باستثناء الاستحواذ على السلطة، السلطة التي لا تملك أي مشروع سوى بقائها.
كان من حسن حافظ الأسد أنه أُصيب بالمرض الشديد بعد انتصاره على الإخوان المسلمين في مستهل الثمانينات، حيث لم يبق لديه آنذاك من مشروع سوى توريث ابنه باسل، ما أدى إلى تراجع حضوره العام ولم يعد مضطراً لتلك الخطابات التي واظب عليها، وواظب فيها على الخروج عن النص المكتوب بخاصة أثناء مواجهة الإخوان، وصولاً إلى ارتجال خطابات كاملة لإثبات فصاحته. قبلها كانت الظروف تساعد الأسد الأب على حشو كلامه بشيء من المحتوى الذي لا يد له فيه، فخطاب الممانعة لم يكن حينها قد ظهر على حقيقته المتهافتة والركيكة، وكان انقسام العالم بين كتلتين يمنح معاداة أمريكا والغرب ثقلاً فكرياً مختلفاً عن اليوم بعدما ورثت المافيا الروسية الصاعدة الإرث السوفيتي من دون محتواه الأيديولوجي، وكان الاتكاء على حزب البعث “على شكليته” يعني الاستناد على خلطة فكرية من ادعاء الاشتراكية والادعاءات الوحدوية.
ضمن كل ما سبق لم يغب إصرار الأسد الأب وآلته الإعلامية على صنع مجده الإنشائي الخاص، فأقواله صارت تُدرَّس للطلاب كأنها آيات مقدسة بصرف النظر عن محتواها. في الشوارع وعلى حيطان المؤسسات العامة رحنا نشهد عبارات تنتشر بوفرة وكأنها فريدة زمانها في الفصاحة، مثل “الشهداء أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر”، أو “إني أرى في الرياضة حياة”، بينما لو تقصينا جميع أقواله التي طُبعت في عدة مجلدات فلن نرى سوى ذلك الإنشاء المبتذل الذي كان ينتزع تصفيق مؤيديه فيتربّون عليه. لكن للحق لوصف الابتذال هذا معنى عدم الإتيان بأية لمحة لغوية أو فكرية متميزة، مع بقائه بالتأكيد أفضل من ورثته البيولوجيين أو غير البيولوجيين لجهة عدم وقوعه في سقطات شبيهة تفضح خواء تنظيم الأسد على نحو ما نراه اليوم.
ما يقوله الانهيار اللغوي لتنظيم الأسد أن اللغة، بوصفها نظاماً، تتطلب نظاماً مقابلاً يُحسن التعاطي على الأقل مع مستواها الأدنى وهو المستوى التواصلي المعتاد. تتسع اللغة للأكاذيب والادعاء، ولقول أشياء يعرف قائلها ومتلقوها أنها تغطية على كلام آخر؛ هذا ما كان موجوداً في خطابات الأسد الأب، وهذا ما نشهده في الأنظمة الشمولية والفاشية عموماً، وفي بعض نسخ أنظمة الاستبداد. إلا أن اللغة لا تطاوع الفقدان التام للمحتوى أو الفراغ، ولا تطاوع الاحتيال على الفراغ بإنشاء رثّ، إنها تنتقم لنفسها فتظهر خواء من يستخدمها. وفق هذا القياس من المنطقي جداً أن نشهد الانهيار اللغوي لتنظيم الأسد مع انهيار مقوماته الأخرى، وتالياً مع الإصرار على عدم استخدام اللغة البسيطة الواضحة التي تعبّر عمّا آل إليه. من ضمن هذا الركام كله ربما يذكر السوريون عبارات تنطق باسم التنظيم أكثر من الفذلكات الحالية عن اللاشعور مثل تلك التي صرّح بها وزير الدفاع مصطفى طلاس غداة توريث بشار إذ قال: أخذناها “السلطة” بالبارودة، ومن يريد أخذها منا فليأخذها بالبارودة. ومن بين ما يُنسب لحافظ الأسد رواية يتناقلها السوريون، لعلها الأصدق والأبلغ تعبيراً، ولعل فيها القول الأكثر “حكمة” من ضمن ما يُنسب إليه. يُروى أن حافظ الأسد لما دخل القصر الرئاسي، بعد انقلابه على رفاقه، جلس في المكتب الرئاسي واستدعى مدير المكتب الذي كان يعمل مع الرئيس السابق نور الدين الأتاسي ثم أشار إلى المكتبة الضخمة وسأله: هل قرأ “معلّمك” كل هذه الكتب؟ و”معلّمك” هذه من الإنجازات اللغوية الفريدة لتنظيم الأسد العسكري والمخابراتي وتعني “سيدك”، فأجاب مدير مكتب الأتاسي: كلما كنت أدخل عليه كنت أراه يقرأ. هنا يقول حافظ “حكمته” الأهم مع ضحكة المنتصر: وما رأيك في أنني لم أقرأ أي كتاب منها وتغلبت عليه؟
المصدر: المدن
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=56263