خالد عكاشة / الدستور
حتى هذه اللحظة؛ من أغسطس ٢٠١٨م، أى بعد ما يقارب «سبع سنوات» كاملة، من الانخراط التركى العميق فى ملف الأزمة السورية. لا يوجد توصيف يمكن الإسناد له، فيما يخص تواجد «القوات العسكرية التركية» على أجزاء واسعة من الشمال السورى، سوى أنه شكل من أشكال «الاحتلال العسكرى». قد يجوز استخدام بعض من توصيفات وألفاظ التجميل أو المداراة، لتبرير هذا التواجد فى مسار من المسارات المتنوعة التى تتقلب عليها المأساة السورية.
لكن يظل الواقع المادى لآليات الجيش التركى، وضباط وجنود ورجال الاستخبارات والأعلام فوق مبانى البلديات، وبعدها تصاريح السير والتنقل عبر الحدود، الصادرة من أنقرة لأهالى مناطق- كانت- سورية، ومؤخرًا «شق الطرق» السريعة والدائرية ما بين المناطق التى يقع عليها فعل الاحتلال، جميعها مظاهر يصعب الالتفاف حولها. ومع النظر إلى «الفترة الزمنية» التى تمضى لترسخ وتفاقم وتخلق أوضاعًا أكثر تعقيدًا، سيكون سؤال استرداد دمشق لـ«السيادة» على تلك الأراضى، محل شك كبير، وقد يدفع لسؤال آخر يشوبه هو الآخر الكثير من الغموض، حول من الذى سيعيد هذا الشمال السورى لسيادة وسيطرة الدولة المركزية.
ينصرف الذهن عادة أمام هذا النوع من الأسئلة، للبحث عن الأطراف الفاعلة التى تمتلك قدرات الإنفاذ أو تغيير المعادلات. وهى اليوم فى سوريا أصبحت معلومة تماما، الولايات المتحدة بنفسها ومصالحها وممثلة لبعض من يقفون على ضفتها، وعلى الجانب الآخر روسيا وإيران والنظام السورى الحالى. والمثير كنتيجة ومحصلة سبع سنوات عجاف للمأساة، أن تركيا كطرف فاعل تشارك من سبق ذكرهم، تتفوق فى امتلاكها قدمًا ثابتة على كلتا الضفتين. فمن يمكنه من هؤلاء «فرض» خروج الجيش التركى، أو مواليه من «التنظيمات المسلحة»، من المناطق التى تم السيطرة عليها، أو إسباغ وضع خاص لها لا يجوز اتخاذ قرار حاسم بشأنها، من دون العودة إلى أنقرة وترتيباتها فيما يخص هذا الشمال الذى سيضحى قريبًا حاملا توصيف «المتنازع عليه»؟.
بالنظر إلى حجم العلاقة التركية الروسية، التعاون الاقتصادى فيما بينهما محكوم بروابط اقتصادية متينة ومتداخلة، تفرض على الطرفين تحييد أى خلاف سياسى خشية انهيار هذه الروابط، وبالتالى التكبد بخسائر اقتصادية جسيمة. فبشكل أساسى تعتمد تركيا على استيراد ما نسبته ٥٨٪ من احتياجاتها للغاز الطبيعى من روسيا. ومشروع «خط السيل الأزرق» بين الطرفين، هو من يوفر هذا الاعتماد الهائل لتركيا على روسيا فى هذا المجال. كما يحتل السياح الروس المرتبة الثانية، من حيث عدد السياح القادمين، وبنفس الدرجة المستثمرون الروس فى تركيا، بالإضافة إلى موقع تركيا كشريك ثان بعد ألمانيا لروسيا، نظرا لحجم ميزانها التجارى المتبادل مع روسيا، والذى استقر حول رقم الـ«١٩ مليار» دولار منذ عام ٢٠١٥.
فى محاولة الانقلاب الفاشلة، رأت أنقرة أن موقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى كان سلبيا، بمقابل موقف إيجابى من موسكو رغم العلاقات المتوترة آنذاك بين البلدين. هذا الأمر شجع على فتح صفحة جديدة، بين موسكو وأنقرة بعيد المحاولة، وامتد ليجد له دفعًا روسيًا فى ذات الاتجاه. حيث شعرت روسيا بالخطر الاستراتيجى من سيطرة «قوات الحماية الكردية» على مناطق شمال شرقى سوريا، تحت الراية الأمريكية، وهو ما استدعى البحث عن شراكة مع فاعل إقليمى قوى، يمكن أن يضمن أو يتفاهم على الأقل مع المعارضة السياسية والمسلحة، ويتقاطع فى بعض مصالحه فى سوريا مع المصالح الروسية، ولم يكن خيار موسكو سوى تمتين العلاقة مع أنقرة وربط تحركاتهما سويا.
على الجانب الآخر علاقات تركيا مع الولايات المتحدة، تشكل فيها الأزمة السورية إحدى أبرز نقاط الاختلاف بين أنقرة وواشنطن، حيث ترى تركيا أن واشنطن فى عهد إدارة أوباما، منعت تنفيذ سياسات حقيقية من شأنها إسقاط نظام الأسد. عندما نقلت اهتمامها بالكامل بعد ٢٠١٤ لمحاربة «تنظيم داعش»، على حساب استهداف نظام الأسد، معتمدة فى ذلك على من تصفهم تركيا بالجماعات الإرهابية «الفصائل الكردية». فيما ترى واشنطن أن تركيا لم تتعاون بما يكفى فى الحرب على الإرهاب، وأنها تضخم مسألة التعاون مع الطرف الكردى فى سوريا، على حساب الهدف الرئيسى المتمثل فى هزيمة «تنظيم داعش».
وبالرغم من تفاقم الخلاف بين الطرفين، على خلفية العديد من الملفات الأخرى، فإن انتقال الأزمة السورية إلى مرحلة التسوية، وحاجة الولايات المتحدة لتركيا كحليف جغرافى يمكن أن يؤدى إلى توازن المصالح الغربية مع المصالح الروسية والإيرانية، جعل الإدارة الأمريكية الحالية تذهب إلى كثير من التوجهات البراجماتية، من خلال سعيها لاعتماد تحالفات تكاملية مؤقتة تتقاسم المسئولية والتكاليف. هذا ما يدفع واشنطن الآن للتنسيق مع كل من أنقرة وموسكو لتحقيق الأهداف الأمريكية فى سوريا والمنطقة، على نحو أقل كلفة بالنسبة للولايات المتحدة، والذى قد يكون أيضا أكثر فاعلية.
فى ذات الوقت تدرك أنقرة جيدًا أن واشنطن، ما زالت فاعلا رئيسيا حتى الآن فى سوريا، إضافة إلى نفوذها فى المنطقة والعالم. بالتالى فإن تحقيق المصالح التركية فى سوريا، لن يتأتى عبر البوابة الروسية وحدها. لذلك تركيا لا يمكن أن تنفصل عن تحالفها مع المعسكر الغربى، بغض النظر عن سوء أو تحسن العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا، وهى تدرك أن العلاقة مع موسكو لا يمكن أن تكون بديلا لعلاقتها مع «حلف الناتو» ومع الولايات المتحدة تحديدا. وكما تفرض عضوية الناتو على أنقرة، ما يربطها ويلزمها باتفاقيات عسكرية استراتيجية، تلزم أعضاءها الآخرين بضرورة الحفاظ على مصالح تركيا، فى مواجهة أى أضرار قد تمارسها أطراف أخرى حتى وإن كانت روسيا.
علاقات على هذا النحو، وأوراق ضغط عديدة غيرها، نجحت تركيا فى الإمساك بها على صعيد الوضع فى سوريا- تعيدنا إلى طرح السؤال المهم الوارد بعنوان المقال.
تنوبه: مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي تركيا بالعربي
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=64160