محمد جلال القصاص / باحث دكتوراة علوم سياسية / مدونات الجزيرة
كل ذي بال من الناس، أو من الأحداث، تضارب حوله الآراء. فريق يؤيد وفريق يعارض. وليس لك أن تصطف مع المؤيدين أو المعارضين دون أن تتدبر حالهم. قد يكون الوقوف بجانب المؤيدين أو المعارضين مضيعة لوقتك وجهدك. قد يكون الخير في أن تدور حولهم وتتعلم من حالهم ثم تنصرف عن المشهد لا تأخذ منه غير عبرة وعظة.
الطيب رجب أوردغان من هؤلاء الذين احتشد الناس حولهم مؤيدين ومعارضين، وأنا ممن يدور حول المشهد يتعلم منه.. لا حظ فيه إلا التعلم من حال الطيب رجب والذين حوله مؤيدين ومعارضين، وها أنذا أتلو عليك بعض ما فهمت مما شاهدت:
بعض الواقفين حول الطيب رجب يستنكرون بقوة ما يقول ويفعل، ويرون أنه نموذج وظيفي كما غيره من زعماء العالم الإسلامي فيما بعد (سايكس-بيكو)، فهو- عند هؤلاء- علماني وموظف عند الغرب أعطوه أجندة ينفذها، ولم يخدم الدين بل فعل ما يفعله الكافرون (التنمية الاقتصادية)! ودعك من التفاصيل.. تعالى معي نقف خلف الذي يتحدث وننظر من أين أتى بكلامه هذا؟ فكل يغرف من وعاءٍ داخلي.. كل له منظور يتحكم في أفكاره ومعتقداته ومن ثم سلوكه وتصرفاته.
يبدو لي بوضوحٍ تام أن الخلل في طريقة الاقتراب من الظاهرة السياسية (أداة التحليل)، هؤلاء يستخدمون أداتين (اقترابين) من أدوات التحليل-بقصد أو بدون قصد-: أداة المدخلات والمخرجات، وأداة النموذج.
مراحل البعثة لم ينسخ بعضها بعضًا، بمعنى أن تمام الدين لم يستقر إلا في الناحية النظرية والتطبيق العملي الأول له
المدخلات (الدعم والطلبات)، والمخرجات (القرارات والسياسات)، والبيئة (الداخلية والمحيطة والخارجية)، والتعذية الاسترجاعية هي مقولات أحد أشهر نماذج التحليل في علم السياسة، ويسمى التحليل النظمي أو اقتراب ديفيد إيستون، والتحليل بهذه الطريقة لها عيب خطير، هو أنه يحلل شيئًا ثابتًا، أو يثبت مشهدًا ويحلله، ولا يراعي عملية التطور التي تحدث في النظم السياسية. وهو ما يحدث مع الطيب رجب، فحين يطفو ذكره على مسرح الأحداث يأتون إليه مسرعين ويأخذون (لقطة) لتحليلها، ويستدعون لقطات أخرى ثابتة من الماضي بشكل انتقائي يدعمون بها فهمهم. يقولون: صديق لإسرائيل، وشارك في احتلال العراق، ويقمع الحريات، ويُبقى على بيوت الدعارة.. إلخ! ويقولون: النجاح الاقتصادي ليس أمارة صحة في الإيمان فالكل يفعله: المؤمن والكافر، وأمارة الصحة عندهم تحقيق التوحيد كليةً حسب رؤيتهم هم. النجاح عندهم أن يحول أردوغان المشهد كليةً ومرةً واحدة إلى حال النبي-صلى الله عليه وسلم- وأصحابه-رضوان الله عليهم- يوم حجة الوداع!!
ويتوطن هذا الخلل من استخدام أداة ثانية في التحليل، هي أداة النموذج. فيستدعون بشكل انتقائي نموذجًا يناسب فهمهم ويفسرون به اللقطة التي أخذوها. وفي الغالب يكون هذا النموذج مقتضب ولا يصلح لتفسير الظاهرة التي أمامهم كليةً. فيقولون: سبق أردوغان رئيسًا آخر أظهر الإيمان ثم تبين أنه عميل-حسب قولهم-، فيستدعون حال السادات لتفسير حال أردوغان، وشتان شتان. ويقولون: إن كان قد نجح في إصلاح حال الناس (الاقتصاد والتعليم) فقد نجح قوم آخرون من غير المسلمين، وكأن خدمة الناس ليست من مقاصد الدين آمنوا أم كفروا، وكأن الأنبياء لم يأمروا الكافرين من قومهم بأن لا يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ولا ينقصوا المكيال والميزان، وكأن النبي-صلى الله عليه وسلم- لم يسع في مساعدة مَن أخذ ماله بغير حق دون أن يعرض عليه الدعوة أو يعرفه بنفسه، وكأن مال الزكاة لم يبذل بسخاء لمن لم يؤمن، وهو مهزوم مكسور في حكم الأسير، تأليفًا لقلبه!!
هذا الانتقاء في أدوات التحليل يخدم -بقصد أو بدون قصد- رؤية مسبقة لدى الذي يحلل، بمعنى أنه يريد الوصول إلى شيء معين ويستخدم أدوات محددة من أجل الوصول إليه، فماذا يريدون؟، في جملة واحدة: يريدون صفاء المشهد كليةً، يريدون زوال الشر وأهله دفعةً واحدة. وهي حالة من قلة الوعي بالنموذج الإسلامي فالتدرج سمة الجماعة المؤمنة، يقول الله- تعالى ذكره- في وصف المؤمنين: (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (محمد:29).
وهكذا كان النموذج الأول: دعوة سرية فردية، ثم تدرج قبل الهجرة، وبعدها تدرج في توسيع دائرة الصراع إلى مرحلة الحديبية، ثم ما بعد الحديبية للفتح، ثم ما بعد الفتح. وبقي النموذج الأول معروضًا على صفحات الأيام كنموذج عملي يرجع أحدنا إليه فيما يناسبه، فإن كان مستضعفًا استحضر حال المسلمين في مكة، وإن كان ممكنًا تحدث عما بعد الفتح، بمعنى أن مراحل البعثة لم ينسخ بعضها بعضًا، بمعنى أن تمام الدين لم يستقر إلا في الناحية النظرية والتطبيق العملي الأول له، بمعنى أننا نحقق المناط ثم نستدعي له من الأحكام ما يناسبه لا أن نطالب بالقفز لمرحلة الكمال مرةً واحدة.
القوي يوظف غيره أو يفيد منه وافق أم لم يوافق. وحالة من مطالبة الغير بدون حق المطالبة، وحالة من الظلم البين بتحميل الفرد ما لا يقدر عليه
وهي حالة من الغفلة عن أن الدنيا لا تصفو، فالراحة في الجنة، والدنيا تدافع وصلاح الدنيا من المدافعة، يقول الله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)(البقرة:251)، ومن سلم من عدو خارجي لا يسلم من عوارض أخرى قضى الله بحدوثها (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155)، هذه إرادة الله، والله يفعل ما يريد، ولا يظلم ربك أحد، فثمة آخرة يُجزى الناس بأعمالهم فجنة أو نار. يوم القيامة يعاقب الظالم ويرضى المظلوم.
وهي حالة من الجهل بمنظومة الباطل، ونقطة الخلل الرئيسية تكمن في عدم الدراية بطبيعة الدولة القومية الحديثة، وكيف أنها متغلغلة ومتحكمة ومرتبطة بمصدرها الغربي، فالدول في عالم اليوم شبكة من الاعتماد المتبادل المعقد. شبكة من الترابط الثقافي والإعلامي قبل العسكري والأمني، والقوي يخترق ويصل إلى ما يريد بسهولة بأفكاره ويده. والذي أفهمه أن أردوغان يصنع رأس مال نخبوي من أهل العلم والدين، عن طريق دعم قطاع التعليم المدني، ويُمكِّن نخبة المتدينين والمدنيين من مؤسسات الدولة، فثمة معركة هدفها استبدال نخبة المجتمع، وتنجح بوضوح في المجال الاجتماعي ولكن أهل المال متلونون ويقظون ويفيدون من التحولات كما غيرهم وربما أكثر. ويحاول صناعة محور إقليمي يتمرد على النظام الدولي أو يستقل بداخله، وهي الآلية الوحيدة التي يمكن بها التخلص من الهيمنة الشاملة التي تمارسها الولايات المتحدة وحلفائها.. خروج كتلة متماسكة جغرافيًا عن طوع الأمريكان وحلفائهم، ولكن تركيا بين ذئاب سياسة(إيران) ومن لا يريدها (روسيا) وآخرون يقلون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم (الخليج)، وجهلة مغرر بهم (الأكراد)..
السؤال: هؤلاء الذين وقفوا على حافة المشهد يشجبون وينكرون ويتساءلون: لماذا لا يرحل الباطل في لحظة؟، وكأن تولي الرئاسة بأدوات الديمقراطية يعني القدرة على فعل كل شيء، هل هؤلاء عملاء؟ لا أعتقد، ولكن حالة نفسية توظف، أو يفاد منها، كما يفاد من غيرها، فالقوي يوظف غيره أو يفيد منه وافق أم لم يوافق. وحالة من مطالبة الغير بدون حق المطالبة، وحالة من الظلم البين بتحميل الفرد ما لا يقدر عليه.
تبقى شيء أريد أن أعرج عليه، وهو دعم الطيب رجب للمعارضة المصرية؛ فالذي أفهمه أنه لا يدعم المعارضة، ولم يقطع الجسور بينه وبين مصر (كدولة وشعب)، وأكثر من هذا أرى بوضوح أنه قد يمد الجسور مع النظام الحالي في مصر إن ترجحت المصلحة. الإثم يقع على المعارضة. خرجت من ديارها ثم تحزبت في الخارج ولم تنهض بقضية ومن بقي منهم في المشهد ففي إطار البحث عن ذاته، ولذا لم يجدوا عند الجادين إلا ما تقتضيه المروءة، وهو السماح بالجلوس دون دعم ٍ حقيقي. فهل يفهمون؟، هل يفهمون أنهم يضيعون وقتهم، وأن الخير في أن يتعلموا في أن ينتهوا من التعليق على الأحداث، في أن يصنعوا حدثًا، في أن يستفيدوا من النهضة التعليمية في تركيا وأوروبا ويتعلموا فيها.
في ظني أن الأمر يحتاج لجيلٍ جديد يشارك وإن بتنازلات، أما هؤلاء الذين رأس مالهم الاعتراض فسيبقون حول كل ذي بال، فدعهم يتهامسون.. يتحدثون.. يشجبون. للجد موطن آخر.
تنويه: مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي تركيا بالعربي
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=85449