اتسع نطاق المواجهات في شمال غربي سورية، بين قوات النظام ومليشيات تساندها من جهة، وبين الفصائل المسلحة التي تحاول التصدي لهذه القوات ومنعها من السيطرة على مواقع ذات أهمية عسكرية، في سياق سياسة “القضم التدريجي” لمناطق في محافظة إدلب ومحيطها، في الوقت الذي تتعمق فيه مأساة عشرات آلاف المدنيين النازحين من مناطق الاشتباكات.
وكعادتها، انبرت موسكو للدفاع عن الهجمات والمجازر التي ترتكبها قوات النظام السوري، متحججة بوجود هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) في إدلب، إذ أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن “القاعدة الجوية الروسية في سورية (حميميم) تتعرض للقصف من قبل جماعة النصرة في إدلب، ويجب اقتلاع هذا التنظيم الإرهابي”.
وقال لافروف، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في موسكو أمس الأربعاء، “هل تعرفون ما هو الوضع في إدلب؟ تم إخفاء جبهة النصرة تحت مسمى جديد هو هيئة تحرير الشام، والتي لا تسيطر فقط على الوضع هناك، بل تقصف وتهاجم من هناك مواقع الجيش السوري والمناطق السكنية، وفي الآونة الأخيرة قصفوا القاعدة العسكرية الروسية الجوية، حميميم.
بالطبع تلقوا رداً، وسوف يتلقون رداً، لكن يجب القضاء على هذا العش من الإرهابيين”.
في هذا الوقت، أعرب وزير الخارجية البريطاني، جيريمي هنت، عن قلقه البالغ إزاء غارات النظام السوري وحليفته روسيا داخل حدود منطقة خفض التصعيد في محافظة إدلب. وقال هنت، في بيان، إن “النظام السوري وروسيا انتهكا بالغارات الأخيرة اتفاق وقف إطلاق النار المبرم بين أنقرة وموسكو”، مضيفاً “كما أن الوضع الإنساني في المنطقة ازداد سوءًا بشكل مفزع”.
وشدد على ضرورة إيفاء روسيا ونظام بشار الأسد بالالتزامات النابعة من القانون الإنساني الدولي، واتفاق سوتشي، مضيفاً “كما يجب ألا يُنسى أنه سيتم الرد المناسب والسريع على أية محاولة مستقبلية لاستخدام الأسلحة الكيميائية بسورية”.
وكان المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، أعلن، في مؤتمر صحافي في نيويورك، أول من أمس الثلاثاء، عن إجراء اتصالات مع الدول الضامنة لمسار أستانة، تركيا وروسيا وإيران، لوقف الغارات الجوية المكثفة في منطقة خفض التصعيد بإدلب. ولم يكشف دوجاريك طبيعة ومستوى الاتصالات التي تجريها الأمم المتحدة مع الدول الثلاث الضامنة لمسار أستانة.
وأشار إلى أن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، دعا إلى “الوقف العاجل للتصعيد في شمال غربي سورية” مع بدء شهر رمضان. وكان غوتيريس حث، في بيان، الأطراف المعنية على الالتزام التام بترتيبات وقف إطلاق النار، معرباً عن “القلق إزاء التقارير التي أفادت بشن هجمات جوية على الأحياء السكنية والبنية التحتية المدنية، والتي أسفرت عن مقتل وإصابة مئات المدنيين، فضلاً عن 150 ألفا من النازحين”.
لكن كل الدعوات للتهدئة لم تجد صدى لدى النظام وحلفائه. ووضعت قوات الأسد ثقلها العسكري لإحداث اختراق كبير في محورين في خاصرة حماة الشمالية الغربية، ما يمهد الطريق لها للسيطرة على عدة نقاط استراتيجية، منها جبل شحشْبو الاستراتيجي وبلدة كفرنبودة ومدينة قلعة المضيق.
وبدأت قوات النظام، أمس الأربعاء، الضغط على محور الصخر، عقب سيطرتها، أول من أمس الثلاثاء، على تل العثمان وقرية الجنابرة، في ريف حماة الشمالي الغربي. ودارت، صباح الأربعاء، اشتباكات تُوصف بـ”العنيفة” في بلدة كفرنبودة.
وقال النقيب ناجي أبو حذيفة، المتحدث باسم “الجبهة الوطنية للتحرير”، أكبر تجمّع لفصائل المعارضة في شمال غربي سورية، إن قوات النظام تحاول، منذ ثلاثة أيام، التقدم على أكثر من محور، مشيراً، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أنها فشلت في ذلك، بسبب تصدي فصائل المعارضة المسلحة لها، إثر اشتباكات عنيفة تكبدت فيها خسائر فادحة.
وأوضح أن هذه القوات حاولت، أمس الأربعاء، التقدم على محور الصخر، وقد “تصدّينا لها ودمرنا دبابة”، مشيراً إلى أن هذه القوات تحاول دخول بلدة كفرنبودة بعد تمهيد كثيف جداً من قبل الطيران الروسي، مشيراً إلى أن “الاشتباكات تحصل على أطراف كفرنبودة، وقوات النظام تتكبد خسائر كبيرة”.
أهمية كفرنبودة
ولبلدة كفرنبودة، التي تقع إلى الشمال الغربي من مدينة حماة بنحو 50 كيلومتراً، أهمية كبرى “فهي مدخل لجبل شحشْبو في ريف حماة، ومن يسيطر على هذا الجبل يستطيع إسقاط منطقة سهل الغاب نارياً”، وفق قيادي في فصائل المعارضة في ريف حماة الشمالي.
وتعد كفرنبودة بوابة المناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة في الشمال السوري، وخط الدفاع الأول عن عمق محافظة إدلب. وتسيطر فصائل الجيش السوري الحر على جبل شحشبو الاستراتيجي، الذي يمتد بين ريفي حماة وإدلب، ويضم نقطة مراقبة تركية في قرية شيرمغار.
ويقود قوات النظام السوري والمليشيات في الهجوم على شمال غربي سورية، العميد سهيل الحسن، المعروف عند أنصاره بـ”النمر”، والذي يعد رجل روسيا القوي في قوات النظام، والذي توفر له غطاءً نارياً كثيفاً في عملياته.
ومنذ عام 2012، يعتمد “النمر” سياسة “الأرض المحروقة”، إذ لا يتقدم بقواته قبل أن تسبق ذلك حملات جوية، بالبراميل والقنابل الفراغية والصواريخ، وهو ما أدى إلى تدمير مدن وبلدات وأحياء بشكل كامل في جميع أنحاء سورية. لكن قيادياً في الجيش السوري الحر أكد، لـ”العربي الجديد”، أن فصائل هذا الجيش “مستعدة لكل الاحتمالات”، معتبراً ما جرى في تل العثمان “مجرد معركة في حرب طويلة”.
وأشارت مصادر عسكرية في المعارضة السورية، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن قوات النظام “تعتقد أن منطقة تل العثمان والجنابرة هشة، لذا تقدمت منها، فضلاً عن كون خطوط إمدادها مفتوحة من الجهة الغربية”، مضيفة “تتبّع هذه القوات أسلوب الالتفاف على المدن والبلدات الكبيرة، من خلال السيطرة على قرى صغيرة في محيطها”.
وأعربت هذه المصادر عن اعتقادها بأن هدف النظام المرحلي هو بلدة كفرنبودة ومدينة قلعة المضيق “وهما أهم نقطتين في خاصرة حماة الشمالية الغربية، في خطوة واسعة باتجاه عمق ريف إدلب الجنوبي”.
ومن الواضح أن قوات النظام تحاول إعادة تطبيق استراتيجية “دبيب النمل”، لتقضم تدريجياً مناطق في شمال غربي سورية. وكانت سبق وطبقت هذه الاستراتيجية في عدة أماكن، لعل أبرزها غوطة دمشق الشرقية، وأحياء حلب الشرقية، معتمدة على كثافة النيران، والقصف الجوي، خصوصاً من المقاتلات الروسية التي تطبق سيناريو “غروزني المتوحش”، إذ دمرت أغلب المرافق الحيوية في مناطق الاشتباكات.
غارات مكثفة
وبالتزامن مع معارك الكر والفر، شنت طائرات النظام السوري الحربية، صباح أمس الأربعاء، غارات عدة، مستهدفة بلدة كفرنبودة بريف حماة الشمالي، في حين استهدفت الطائرات الروسية فجراً كلا من معرزيتا والركايا ومحيط كفرسجنة واللطامنة والصخر وعابدين وأطراف تل الشيخ، وأبو حبة ومحيط خان شيخون وتحيتايا والحواش.
كما قصفت قوات النظام بعشرات القذائف بلدتي كفرنبودة والصخر، إضافة إلى بلدة كفرزيتا شمال حماة. وأحصى “المركز الإعلامي العام” في مدينة معرة النعمان 150 غارة، ألقى خلالها الطيران 150 برميلاً متفجراً، ونحو ألفي قذيفة وصاروخ، ما أدى إلى مقتل 25 مدنياً، مشيراً إلى أن قوات النظام تكبدت خسائر وصفها بـ “الفادحة” في اشتباكات الإثنين والثلاثاء.
كارثة إنسانية
وتشير المعطيات الميدانية إلى أن منطقة شمال غربي مقبلة على مرحلة جديدة من الصدام العسكري بين قوات النظام ومليشيات تدعمها، وبين الفصائل و”هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، مع ما يجُر ذلك من أزمات إنسانية واسعة النطاق لنحو 4 ملايين مدني يقطنون هذه المنطقة الضيقة جغرافياً.
وذكرت مصادر محلية، لـ”العربي الجديد”، أن عشرات آلاف المدنيين النازحين “يفترشون الأرض ويلتحفون السماء”، مضيفة “ينتشرون في مزارع الزيتون على أطراف المدن والبلدات في ظروف تكاد تصل إلى حدود الكارثة الإنسانية”. وأكدت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، في تقرير صدر أمس، أن “الحملة العسكرية التي تشهدها منطقة إدلب، منذ 26 إبريل/نيسان الماضي، هي الأعنف منذ دخول اتفاق سوتشي حيِّز التنفيذ، في 17 سبتمبر/أيلول العام الماضي، وهي بالتالي الأسوأ على الصعيد الإنساني من حيث حصيلة الضحايا وموجات النزوح التي نتجت عنها، والأسلحة التي استخدمها النظام السوري”.
وأشار التقرير إلى أن “التصعيد الأخطر كان في 30 إبريل الماضي، مع بدء قوات النظام السوري استخدام سلاح البراميل المتفجرة، للمرة الأولى منذ دخول اتفاق سوتشي حيِّز التَّنفيذ”، مضيفاً “سُجل في المدة التي يُغطيها التقرير 1068 غارة جوية لطائرات النظام والطائرات الروسية، 496 منها على يد سلاح الجو التابع لقوات النظام السوري، و572 من قبل سلاح الجو الروسي”. وبيّن أن التصعيد العسكري “تسبب في موجة نزوح كبيرة من ريفي حماة الشمالي والغربي، وريف إدلب الجنوبي، حيث بلغ عدد النازحين نحو 130 ألف نسمة، منذ 26 إبريل/نيسان حتى 6 مايو/أيار الحالي”.
وطبقاً للتقرير، فقد قتلت قوات “الحلف السوري الروسي” ما لا يقل عن 108 مدنيين، بينهم 26 طفلاً، و24 امرأة، وارتكبت 3 مجازر خلال هذه الفترة، موضحاً أن قوات النظام السوري قتلت 71 مدنياً، بينهم 12 طفلاً و18 امرأة، معظمهم في محافظة إدلب، فيما قتلت القوات الروسية 37 مدنياً، بينهم 14 طفلاً و6 نساء توزعوا بين محافظتي حماة وإدلب، وارتكبت ثلاث مجازر جميعها في محافظة حماة. وأشار إلى تكتيك اتَّبعه النظام السوري، على مدى سنوات عدة، وهو الاستهداف المدروس للمستشفيات ومراكز الإيواء، لافتاً إلى أنَّ “النزاع السوري هو أكثر نزاع تم فيه استهداف المستشفيات والمراكز الطبية على هذا النحو، وذلك بهدف نشر الرعب في المجتمع”.
وبحسب التقرير، فقد طاولت الهجمات أكثر من 80 مركزاً حيوياً مدنياً، بينها 11 من أماكن العبادة، و28 مدرسة، و18 منشأة طبية، و9 مراكز للدفاع المدني. وأضاف التقرير أن القوات الروسية نفَّذت هجوماً واحداً بذخائر عنقودية، في حين ألقى سلاح الجو التابع لقوات النظام السوري ما لا يقل عن 188 برميلاً متفجراً في المدة ذاتها، معظمها على محافظة إدلب.
واستنكر التقرير خلو بيان المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة الصادر قبل يومين من الإشارة إلى تحديد المسؤول عن الهجمات الجوية على المستشفيات والمدارس، علماً أن أغلب الهجمات تمت عبر سلاح الجو، والطوافات، وهذا السلاح لا يمتلكه سوى النظامين السوري والروسي.
وأوضح أن حصيلة الحملات العسكرية التي شنَّتها “قوات الحلف السوري الروسي” بلغت، منذ توقيع اتفاق سوتشي، 544 قتيلاً مدنياً، بينهم 163 طفلاً و105 نساء، وتشريد قرابة 900 ألف مدني، نزح مئات الآلاف منهم غيرَ مرة.
وأضافت الشبكة أن هذه الاعتداءات أسفرت أيضاً عن تدهور الوضع المعيشي لنحو 4.7 ملايين شخص يقطنون في مساحة تبلغ نحو 6800 كيلومتر مربع، يعيش قسم كبير منهم على المعونات، في ظلِّ انتشار الفقر والبطالة، وتوقُّف عدد كبير من المنظمات الدولية عن العمل، بعد أن سيطرت “هيئة تحرير الشام” على مناطق واسعة من محافظة إدلب.
أمين العاصي / العربي الجديد
المصدر : https://arab-turkey.net/?p=99491